لن يكون باستطاعتك لملمة هذا الكتاب واختزاله في سطور... ففي كل حرف من حروفه دلالة... وفي كل عبارة من عباراته تاريخ... وعند كل نقطة فيه منعطف... منعطفات تاريخية وسياسية توقف الكاتب عندها، شكّلت بدورها سيلاً من الحقائق والوقائع الموثّقة والتي تستجدي لدى المتلقّي متابعتها بتفاصيلها... وربطها بالسابق واللاحق وصولاً إلى الوقوف على مواقف ومجريات شكّلت سبباً من أسباب انهيار - أو قُرب انهيار - صرح لبنان على أبنائه، وقف من وراء ذلك... غافلون ومتغافلون... مستفيدون... أغبياء لم يقدّروا نعمة منّها الله بها عليهم... نعمة لبنان... الوطن لكل أبنائه.
في بداية الستينيات كان لبنان بحق «سويسرا الشرق»، إذ كانت للدولة اللبنانية مقارنة بكل دول المنطقة، أعرق الجامعات، ودور النشر... وأفضل شبكة طرق. كان متوسط دخل الفرد حينذاك في عداد الدول الغنية، وكان لبنان مصنّفاً من دول العالم المتقدم، وكان اللبناني مميّزاً ومحترماً... أينما حلّ وارتحل[...].
وما أبعد اليوم عن الأمس... وحروف الكاتب تنزف ألماً ودمعاً وحسرة وهو يُسطّر الوقائع التي تداعت تباعاً معلنة منذ لحظاتها الأولى، وبعد إعلان ميثاقه الوطني وما آلت إليه الحال، والمصير المريع الذي سيؤول إليه لبنان وأبناؤه... على يد سلطات قيل إنها وطنية زيفاً، حكمته من الميثاق إلى الطائف، بالإضافة إلى لاعبين غرباء سُمح لهم بالإدلاء بدلوهم وصولاً إلى زعزعة كيان لبنان الوطن... تابع الكاتب ذلك كله في كتابه هذا الذي اشتمل على ثلاثة أجزاء تتكامل وتتداخل فيما بينها، في محاولة عن السؤال الوجودي، الذي يُختصر بـ: فماذا بعد؟[...].
شكَّل الجزء الأول «مئة عام من الضياع» قراءة في الأحداث التي استجدّت منذ إعلان دولة لبنان الكبير، التي نخرها وباء خبيث تسرّب تدريجياً إلى سائر مفاصل السلطة الناشئة، وعطّل إمكانية قيام دولة منجزة تتيح للبنان، كوطن، تحقيق المعجزة الموعودة لأبنائه، على اعتباره، بمقوماته الموضوعية، أغنى بلدان الدنيا، وهنا يشير الكاتب إلى الحرب الأهلية عام 1975 وأسبابها، مبيّناً انه وفي النصف الثاني من القرن الماضي، قاد التقاء المصالح والأهواء بين المؤسسة السياسية الاحترافية المتداعية في الداخل والقوى الظلامية الحاقدة والحاسدة والطامعة في الخارج، إلى حرب الأشرار على الأراضي اللبنانية... على أرض لبنان الوطن، في العام 1975، مما أدّى إلى تخريبه، منذ الإرهاصات الأولى لهذه الحرب، التي اغتصبت سنيّ جيل تلك الفترة.
وهناك منعطف تاريخي مفصلي آخر توقف الكاتب عنده، وهو الفترة التي كان السعي فيها حثيثاً لإيقاف مهزلة ما قيل انها «الحرب الأهلية»، وذلك لوضع حد للاقتتال العبثي على أرض لبنان، ليرسم خارطة الطريق لوفاق على قيام الدولة الديمقراطية... ولكن ونتيجة لعدة معطيات داخلية وخارجية، يعمد الكاتب إلى تفصيلها، لم ينفذ حرف واحد من نصوص ذاك الميثاق، مستعرضاً جريمتا اغتيال الرئيس رينيه معوض، وإقصاء الرئيس سليم الحص تمهيداً للإنقلاب على الميثاق.
أما الجزء الثاني الذي جاء تحت عنوان «شرعية الوطن اللبناني» والذي شكّل منحاه مراجعة أكاديمية حول شرعية وجود الوطن اللبناني ومشروعيته، هذه المشروعية التي تعرّضت وتتعرض كل يوم إلى المزيد من الأضاليل والترهّات التي يروّجها المنظّرون السفهاء الضالعون في إنكار حق لبنان بالسيادة على ترابه من دون منازع، متطرقاً إلى موضوع الفصل بين كل من مفهومي الدولة والوطن، كما تناول بيان مفهوم الديمقراطية التي تتعارض كلياً مع الأنظمة الطائفية القائمة على التمثيل الطائفي، مذكّراً بالمبادئ الفقهية الناظمة لتراتبية المعايير القانونية، لتجنّب الخلط بين الميثاق والدستور، متطرّقاً من ثم إلى بيان المقومات والموارد المتوافرة التي تؤكد على ان لبنان الوطن ما زال من خلال تنوّع موارده وخصوصية موقعه وقدرات شعبه من أفضل أوطان الدنيا، وأكثرها ثراء... فضلاً عن كنوزه المخفية... الغاز والنفط... فيما إذا قيّض لنظامه السلطوي التحرر من الفكر الطائفي ومن السلاح الطائفي، ومن منظومة التخاصص اللاشرعية.
وأخيراً يأتي الجزء الثالث والأخير «الميثاق أو الانفكاك... الطائف ذلك المجهول»... المحور الذي شكّل عنوان الكتاب ومدار البحث... فقد تناول الكاتب فيه مناقشة ميثاق الوفاق الوطني الذي وضع حدّاً للحرب الأهلية، راسماً خارطة الطريق للدولة الديمقراطية الحديثة في لبنان، معلّقاً بقوله: «من المحزن ان الميثاق وهو الابتكار الأهم في تاريخ الوطن الحديث، ما زال مجهولاً ومغيّباً ومحجوزاً عليه، موظفاً لترويج الحكايات وتأجيج الفتن لاستمرار النظام الفاسد والمدمّر».
وتساؤل حيوي يلقي بظلاله على مصير لبنان وأبنائه... المتمحور حول الوباء الطائفي: هل ان الطائفية وهمٌ ولّدته سذاجة المغرر بهم تحت وطأة الهواجس والخوف من الآخر؟ أم انها جريمة مدبّرة مستمرة ينظّمها مأجورون ضالون في سبيل تفريغ البلاد من نخبها وتهجير شعبها واغتصاب قرارها؟[...] وتساؤل يقض مضجع المواطن اللبناني: «وماذا بعد؟!!».
ضحى الخطيب