هو المجال الجغرافيّ الذي يضمّ مجموعةً من الناس ألَّف بينهم تاريخٌ مشترك وإرادةٌ في بناء مستقبل مشترك.
ويتجسَّد ذلك في صيغة قانونيّة هي الدّولة التي يُنشئونها معاً، في إطارٍ من التّشريع يُحدِّد الحقوق والواجبات التي للمواطنين وعليهم.
ولرسوخ التاريخ المشترك وجهٌ عاطفيٌّ هو الإرتباط بالأرض، بسبب الولادة والنُّشوء والعمل فوق رقعتها. إذ يتحوَّل ذلك إلى تمثُّل طبيعتِها في أعماق الذّات الإنسانيّة، بحيث تغدو تضاريسُها ومناظرُها وألوانُها وأنغامُها جزءاً من كياننا يتماهى وتفكيرنا، ويتآلفُ وخيالَنا، ويذوبُ في عاطفتنا؛ وفي المُحَصَّل يَبني شخصيَّتنا الوطنيّة التي ننماز بها من سائر الخَلْق في أوطانهم، في حين تجمعنا بهم النّزعاتُ الإنسانيّة التي تتعدّى حدود الأوطان وتتجاوز الأزمان.
هذه المعطيات تجعل من الوطن، بالنسبة إلى الإنسان، مجموعة ذكريات يتفاعل فيها المكان والزَّمان فيجعلان أعلى ما عندنا، وأوثق ما يربطنا بالأرض التي يقوم عليها الوطن.
من هذا المنطلق كانت الإستماتة في الدّفاع عن الوطن ضدّ الغازي والمعتدي والطّامع، إذ أنّ الأرض لم تبقَ الأرض ذات الطّبيعة الجميلة أو القبيحة، بل غدت الإرث الّذي احتملته في قلبها من الآباء والأجداد الأقربين والأوّلين، حياةً مشتركةً تحوّلت إلى ذاكرةٍ جماعيّة هي أسس كياننا وجوهرُ إنسانيّتنا.
هذا الأمر يفسّر لنا عاطفة الحنين إلى الوطن لدى الّذين اضطُرّوا إلى مغادرته والهجرة إلى وطن آخر. إذ يشعر المهاجر بأنّه خلَّف في وطنه الأوّل كلّ ما ورث من تاريخ وجميع ما صنع من مآتٍ. إنَّ الحياة ذاكرة واعية ولا واعية تتجدّد باستمرار. وكلّ انقطاع لمسيرة هذه الذاكرة عن محيطها الطبيعيّ المرتبط بالمكان يحدث اضطراباً وتحوّلاً في حياة الإنسان، ويفجّر كينونته عواطف مستجدّة سجّلتها آثاره عبْر عصور التاريخ. ومن هذه الآثار شعر الحنين إلى الوطن في إنتاج شعراء المهجر من الّلبنانيين وسائر شعراء العالم؛ وكذلك نثر الناثرين، ولوحات الرسَّامين، ومعزوفات الموسيقيين. وجميعها تراث رائع الجمال يحكي قصّة الفردوس المقصود!
ثانياً: المفهوم المثالي للوطن
في مقابل النّظريّات التي عرَضْنا لها رأت فئة أخرى إلى الوطن على أنه واقع معنويّ أفضت إليه مجموعة مشتركة من الذّكريات وإرادة مشتركة. وقد صاغ هذه النّظرية المفكّر الفرنسي إرنست رينان في محاضرة شهيرة بجامعة السوربون، في 11 آذار 1882، بعنوان (Ernest Renan): ما هي الأمّة؟
الإرث الوطنيّ وإرادة الحياة المشتركة
شدَّد رينان على الماضي الوطنيّ، وهو ما تحدّد إلينا من إرثٍ غنيّ بالذكريات؛ ثم على ما أسماه التوافق الحاضر والرغبة في الحياة معاً، أي الإرادة في متابعة تفعيل الإرث المتحدّر إلينا. وفي حين أخذ التقليديّون بالنقطة الأولى وهي الوقوف عند المحافظة على الإرث، رفض التطوريّون مقولتهم، كما أشار غوبلو (Goblot)، مقرّرين أنّ الوطنيّة ليست في الإتّجاه إلى الماضي الموروث وحسب، بل هي تتوجّه نحو المستقبل، فليس علينا أن نحذو حذو الآباء في مآتيهم مكتفين بذلك، إذ أنهم أورثونا أخطاءً بمقدار ما تركوا لنا من أمثلة نحتذيها. هكذا تضع النّظرية المثالية في المقام الأول إرادة العيش المشترك ومتابعة العمل الموروث المشترك. وبهذه المقولة وما يتفرّع منها من آراء.
مقوّمات سياسيّة وإقتصاديّة
في مقابل العناصر المشار إليها أبرز المفكّرون والمؤرّخون وعلماء الاجتماع وسواهم مقوّمات سياسيّة وإقتصاديّة رأوا فيها قوام الوطن وعماده. منها، مثلاً في المجال السياسيّ، قيام حكم وطنيّ ذي طابع استمراريّ كالإمارة أو الملك. فمن شأن ذلك أن يوحّد الأرض والشعب حول سلطة سياسيّة مركزيّة. ويقال مثل ذلك في المصالح الإقتصاديّة التي توثّق عرى العلاقات بين الجماعات من أفراد الشعب، ثم تتحوّل إلى ربطهم بمصير واحد. وتتجدد وجوه هذين العاملين في مؤسّسات سياسيّة وإقتصادية تثبّت أركان المصالح وتصونها، ومن ثم تبني الوطن والدولة.