بحثت «ناتاشا فودين» في روايتها «إمرأة من ماريوبول» الصادرة عن «شركة المطبوعات للنشر والتوزيع» عن الحقيقة المطلقة للإنسان المتعثر في الحياة أو الأحرى نتائج الحروب والصراعات العرقية على الإنسان بوصفه كائن حي يحق له أن يحيا في الحياة بسلام قبل أن يموت، كما ماتت أمها التي أصيبت باضطرابات نفسية قادتها إلى الإنتحار رغم انه ما من «أماكن شاغرة في مدافن المدينة العتيقة التي تشبه المنتزه». منتقدة تغيّرات أمكنة القبور عبر الزمن الذي يأكل كل شيء، بتوثيق متين لتفاصيل منحتها هوية تاريخية تفتحت عن الكثير من الحقائق عن الاستعباد البشري محاولة غرس الوعي التاريخي من خلال الفن الروائي المغمّس بموهبة الروس الدرامية التي ذكرتها في روايتها، لتضع النقاط فوق الحروف بتصوير للكثير من المشاهد النابعة من وحي خيالها المستوحى من روايات قرأتها كما تقول في صفحة 349 «لا بد من أن تصوّري للمشهد نابع من وحي خيالي المستوحى من روايات قرأتها لاحقاً» وان بأسلوب مجازي لتسقط الرؤية على أحداث روسيا والحرب الألمانية - الأميركية وكل ما «أسفر عن انقطاع الروابط الطبيعية بين الأجيال في القرن العشرين» إضافة الى العنصرية المقيتة في زمن الارستقراطيين الروس الأثرياء بعيداً عن «القدرة على انتهاك الحقائق التاريخية، والتي يفترض أن مواطني الاتحاد السوفيتي الأسبق كانوا على علم تام بها؟ فهل اخترقت «ناتاشا فودين» كتب التاريخ بحثاً عن حقائق الظلم الإنساني للإنسان؟ أم أنها أرادت البحث عن العرق اليهودي الذي كان منتشراً في كل أراضي العالم، وبخاصة ماريوبول التي ما زالت حتى الأن تتلقى الضربات بعمق؟
تبدو العودة إلى التاريخ الاضطهادي للإنسان في رواية «ناتاشا فودين» هي تمثيل الذات في أزمة زمنية تشكّل نوعا من الانهيارات في القرن العشرين والواحد والعشرين وما سبقهما أيضا، لما لها من تأثير على المجتمعات البشرية خاصة في ماريوبول التي تشكّل نوعا من الأزمات الصغيرة سابقا، والكبيرة لاحقاً، بشمولية سقوط للعديد من الأنظمة أو الأفكار المستمدة من الظلم الذي يقع على الإنسان في الحروب «كانت الحرب الأهلية قد أتت على ماريوبول بالكامل. فتوقف العمل في جميع المصانع بحلول عام 1922. وساد الفراغ القاتل المتاجر. انتشرت السرقة على أيدي العصابات. وتزايدت البلاغات بشأن آكلي اللحوم» مع الاهتمام بالكثير من التصوير المتخيّل الواقعي تاريخيا للمعتقدات التي يذهب ضحيتها الإنسان بغض النظر عن ماهيته الواقعية في الحياة، والتي تؤثر سلبا على الأجيال اللاحقة»، وبفتح عميق ودقيق للذاكرة الروائية نحو عواقب ما بعد الأزمات التي تؤدي الى التشكيك بالذات، والكآبة المتوارثة من الجدة الى الأم، فالحفيدة «جاءت أمي إلى الدنيا لتجد نفسها في عالم خاضع لقيود شديدة» وهذه هي أزمة الوعي التاريخي للأحداث دون تحديدها كمحرقة اليهود وغيرها كي لا تتسم الرواية بالتضامن التاريخي مع اليهود خلال الحروب النازية وما قبلها، وخاصة اليهود الروس مع الابتعاد عن عن أن تكون كاتبة محرقة من خلال رواية السيرة الذاتية، ذات القيود التاريخية والحقائق البحثية بالتواريخ مع التركيز على ماريوبول لما تشكّل من نقطة استراتيجية تتيح بشكل أوسع لفتح الذاكرة التاريخية للكثير من المناطق التي ترتبط معها بالمصير. فهل نقطة التحوّل الأخلاقية في الرواية هي الاضطرابات النفسية التي يتعرّض لها كل من عانى من الظلم على مرِّ التاريخ لأزمات عنصرية تقضي على الإنسان أولا؟ وهل الحداثة تائهة بين الماضي والحاضر والمستقبل المجهول؟ أم أن كل مدينة تعرّضت للعنصرية وللاحتلال وللظلم هي ماريوبول؟