بيروت - لبنان

اخر الأخبار

20 شباط 2020 12:00ص بين الرقيّ المادي والرقيّ العقلي

حجم الخط
العقل نور للإنسان، ولذلك وجب أن يتقدّم نبراسه أمام المرء، ليتمكن من السير في سبيل الرقيّ الحقيقي. وما دام العقل - بما فيه من العلم - نوراً، فمن شأنه أن يدلّ صاحبه إلى مصيره، والغاية المتوخاة من حياته، ويعبِّد أمامه الطرق المؤدية إلى غيره من التقدّمات. فإذا كان الأمر كذلك، نقول: بلا تقدّم أدبي، ليس من تقدّم حقيقي في العلم. التقدم العقلي هو السير في سبيل الحق، والتقدّم الأدبي هو السير في سبيل الخير. والحال ان من أراد أن يقطع شوطاً شاسعاً في طريق الحق، تحتّم عليه أن يبلغ حدّاً قصيّاً في جادة الخير. ومن شأن العقل أن لا يتّحد بالحق اتحاداً متيناً إلا إذا كانت الإرادة متصلة بالخير اتصالاً مُحكماً. وكلما ازداد في النفس البشرية تسلّط الضلال والشر، تضاءل نور الحق وتلاشت قوى الخير. ومتى استقالت الاستقامة من الأعمال، بادت الإصابة في أحكام العقل. وعليه، في وسعنا أن نقول نظرياً بلا مغالاة ان الإنسان لا يستطيع أن يكون عالماً حقيقياً، إن لم يكن فاضلاً تقيّاً. والسبب في ذلك ان العلم المحقّق قائم على أركان معرفة الحق ومحبة الخير. ومهما كان نبوغ المرء فائقاً عجيباً، فان لم يكن هو في شيء من الصلاح، لا قدرة له أن يصبح رجل حق.

نطلق القول نظرياً، لأننا لا ندّعي ان الإنسان الخالي من الفضل عاجز عن إدراك أدنى شيء. فقد يُمكن، بلا فضيلة التعلم واكتساب شيء من الحقائق. لكن، ما هذه الحقائق؟ هي حقائق مادية، مشتتة، لا رابط يربطها. أما الحقيقة الثابتة المطلقة، الصادرة عن رب الحق، ومصدر كل حق، فهو عطل منها، وقصيّ عن الوقوف عليها.

أجل، اننا نشاهد في العلم - قل العلم المعرَّى من كل فضيلة - رقيّاً محسوساً. لكن، ما هذا التقدّم العلمي في معزل عن التقدّم في الأخلاق المحمودة، وما عمله؟ عمله عمل العلم المتجسّم فيه روح البشر، فلا ينشئ إلا ما ينشئ هذا الروح الرجيم. صانع الشر يبغض النور، ولا لذّة له إلا في إخفاء الحق تحت ظلمات الضلال المدلهمة. وما يقال في ذا الشأن في الأفراد يُطلق على الجماعات. هكذا، تحيد العلوم عن سبيل الصواب، وتبتعد عن غايتها. فعوض أن تكون محجة هداية، تصبح بيداء غواية.

الفلسفة، علم الحق بامتياز الذي يفتقر إليه مسؤولونا عموماً، تستخدم وسيلة للشك والانكار، درس الطبيعة يمحو درس النفس، معرفة العالم تحجب معرفة الخالق أو أقلّه الركون إلى الضمير الحي، علم الماديات يخنق علم الروحيات، التاريخ عينه، سجل الحق ومقرره، يمسي آلة للكذب.

في الخلاصة، نرى كل شيء أحياناً سائراً في سبيل التضليل والضلال اللذين عاش مجتمعنا في ظلهما في الحقبة الأخيرة. ولذا، فالعياذ بالله من «المتخصصين» الخالين من الفضيلة، والمستشارين العديمي الذمة، لأن الشرير الجاهل لا يكون إلا شريراً، أما الشرير العالم فهو خربة، بل نقمة على البشرية، وهو عدو الحق، بل هو قوة شديدة لنشر الضلال.

فحذار، في مرحلة انهيارنا الحالية خصوصاً، تفاقم حالات مرضى «الأنا» ممن اغتصبوا سلطات وراءها دول. حذار تزايد حالات الغرور والخفة والأداء والارتهان ألا فلتعمل حكومتنا الجديدة على الرغم من كل شيء في مناخ من التخطيط والاستشراف والجدية، ولا ينحصر همّها في سد فراغ أو كسب عطف أو تجنّب شغب شعب يكاد يفقد كل أمل.



أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه