أخشى ما نخشاه للبلاد، هو المجهول الذي تذهب إليه، تنساق إليه، تقع فيه، تغرق فيه حتى أذنيها. من الصعب أن نصدق، أن حكام البلاد، قد حكموا على بلادهم، بزفّها إلى المجهول. ولكن الأصعب من ذلك، أن تصير هذه البلاد هي نفسها مجهولة، لا تشبه أي بلاد في العالم.. وطن لا يشبه سائر الأوطان.. بلد لا يشبه سائر البلدان.. بلاد لم تعد لها هوية، ولم يعد لها رئيس، ولم يعد لها مجالس، ولم يعد لها شعب يرغب بالعيش فيها.. بلاد مجهولة الهوية، مجهولة الإنتماء. بلاد «غريبة اليد والوجه واللسان»، على حد قول المتنبي، حين مرَّ بشعب بوان في بلاد فارس، فقال: ولكن الفتى العربي فيها/ غريب الوجه واليد واللسان.. بلاد نراها تزفّ بأمّها وأبيها، إلى المجهول، على قاعدة من الكلمة الجريئة التي قالها الأديب التركي ولي الدين يكن، منذ قرن ونصف القرن، متحسّرا في كتابه «الصحائف السود»: «.. وأخيرا زفّت المجهولة إلى المجهول».
تجنّب الهبوط بالبلاد، إلى هذه الدرجة من المأسوية، هي مسؤولية الشعب أولا. وهي مسؤولية حكّامه تاليا. فكيف يرضى الشعب اللبناني، بتمزّقه مللا ونحلا، وطوائف وأحزابا؟ كيف يقبل أن ينبري منه، من ينبري للذهاب أبعد من حدود الوطن، الذي إرتضاه «وطنا نهائيا لهم»، (لجميع اللبنانيين) على حد قول الإمام العلّامة، الشيخ محمد مهدي شمس الدين. كيف يقبل اللبنانيون، أن يذهب ضعاف النفس منهم، للإتجار بأرض لبنان، للإتجار بكرامة لبنان، للإتجار بوجه لبنان، للإتجار بالبقية الباقية من شعب لبنان، في الوطن وفي المهاجر على حد سواء؟!
الهبوط بالوطن لجعله بلادا سائبة، إنما هي مسؤولية شعبه أولا، وهي بالتالي مسؤولية حكامه. فكيف يقبل الشعب أن تذهب دولتهم، وأن تغيب شمس بلادهم في المجاهيل، وأن يصيروا أمما شتى، وتشق عصاهم، ويصبحوا بين ليلة وضحاها، نهبا شائعا لجميع أمم الأرض؟
الشعب، هو الذي يمنح الهوية للبلاد، هو الذي يجعلها بلادا محترمة في عيون الأمم، هو الذي يصنع تاريخها وحاضرها ومستقبلها.. الشعب لا يعرف المستحيل. هو الذي يصعد الحكام، وهو الذي يختارهم، وهو الذي يراقبهم وهو الذي يحاسبهم. وهو أيضا الذي يحاكمهم، إذا ما أساؤوا أو قصّروا، أو إذا ما وقعوا في الشبهات، أو دارت حولهم الأقاويل في التهاون، بأرض البلاد وبمال البلاد وبالناس في البلاد. الشعب هو كل شيء عند الأزمات.
إرادة الشعب هي الأقوى، وموقفه هو الموقف، وكلمته هي الكلمة. ولا يند عنه شيء في حفظ البلاد وصونها، ليجعلها أمام حقوقها، كباقي الأمم، في المجالس والأروقة والهيئات والنوادي والمحاكم، التي تحفظ لجميع الشعوب والأمم، كما في المواثيق الدولية، حقوق الأمم.
منذ عقود، ولبنان يعاني، من عقدة التراجع والهبوط. لم يعد سيد نفسه، كسائر البلدان. صار مضرب المثل في التفلّت.. صار مضرب المثل في التفكك.. صار مضرب المثل في التهرّب.. صار مضرب المثل في الفشل والفقر والعجز والفساد. سار به أهله هزأة بين دول وشعوب الأرض، وهم لم ينتبهوا بعد، لما يقع لهم، ولم ينتبهوا لما تجنيه أيديهم، ولم يستفيقوا على جناياتهم: أنهم يهبطون ببلادهم إلى القعر. وأنهم يجعلون أبناءهم، في الآجل القريب، أو في العاجل، لا فرق، بلا وطن وبلا كرامة، وبلا سقف.
في الآونة الأخيرة بلغ الهبوط بالبلاد، إلى أسفل الدرجات. بلغ الهبوط بالبلاد إلى القعر. صاروا مثل القرد على الشجرة. كل يوم يحزون الغصن الذي يقفون عليه. كل يوم يقطعون غصنا من الغصون التي يقفون عليها. وهم يخشون الهوي إلى الأرض. وهم يخشون السقوط والإرتطام، والتخلّع والتكسّر، والهبوط إلى الأرض، في صورة أبشع قرد، قطع الغصن الذي يقف عليه، فسقط مضرجا على الأرض.
تجنّب الهبوط بعد، هو مسؤولية اللبنانيين جميعا، هو كل مسؤولية الشعب.. يكفي ما ذاقوه منذ أول القرن، يكفي ما أذاقوه لأبنائهم، في وطنهم وفي مهاجرهم، جرّاء إستهتارهم ببلادهم، جرّاء إستهتارهم بأعمال حكامهم، وبمواقفهم التي يقفونها، وبإنحيازاتهم إلى هذه الدولة أو تلك، بعد تخلّيهم عن الحياد، بعد تخلّيهم عن ملازمة قواعد وسياسة «النأي بالنفس». وهم اليوم أمام إمتحان تاريخي، أمام مسؤولية تاريخية، والفرصة أمامهم، ليحكموا أنفسهم بأنفسهم، فيختاروا، في الإنتخابات النيابية القادمة، من يعبّر عن إرادتهم ومن يعمل لأجل لبنان، ومن يوقف الهبوط به إلى القيعان.
تجنّب الهبوط، هو أول النهوض. ولا يتم ذلك إلا بإرادة قوية من الشعب، حين يستحق موعد الذهاب إلى الصناديق.. موعد الذهاب إلى الإنتخابات.
أستاذ في الجامعة اللبنانية