بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 أيار 2022 12:00ص تحيا الثورة ولكن!...

حجم الخط
غزت روما بلاد الاغريق، ليس لأن للرومان دماغاً أكبر أو تقنيات آلية أفضل، وإنما لأنهم تجلّوا قادرين على التعاون تعاوناً أكثر فاعلية. عام 1914 مثلاً، سيطر ثمانية ملايين من النبلاء والمسؤولين والتجار على مئة وثمانين مليون فلاح وعامل روسي. أدركت النخبة الروسية كيفية التعاون ذوداً عن مصالحها المشتركة، في حين أن سائر الناس تبيّنوا عاجزين عن تعبئة فاعلة. والواقع أن معظم جهود النخبة ركّزت على الاطمئنان إلى ان المئة وثمانين مواطناً في أسفل السلّم لن يتلقنوا كيفية التعاون.
ليست الأعداد بكافية لشن ثورة ما. فالثورات تقوم بها عادة شبكات صغيرة من المحرّضين وليس الجماهير. فإذا شاء بعضهم أن يطلق عنان ثورة ما، ينبغي ألّا يسألوا أنفسهم عن عدد مؤيدي أفكارهم بل عن عدد المؤيدين القادرين على التعاون الفاعل معهم. لم تندلع الثورة الروسية عندما ثار مئة وثمانون مليون فلاح على القيصر بل بالأحرى عندما وضع حفنة من الشيوعيين نفسها في المكان المناسب والوقت المناسب. عام 1917، عندما كان عدد الطبقة العليا والطبقة الوسطى أقلّه ثلاثة ملايين نسمة، كان عدد المنضوين إلى الحزب الشيوعي قد بلغ الـ23000 عضو. ولكن الشيوعيين سيطروا على الامبراطورية الروسية المترامية الأطراف لأنهم أجادوا تنظيم صفوفهم. ما أن أفلتت السلطة في روسيا من أيدي القيصر المتداعية وكذلك من حكومة كيرنسكي الموقتة، حتى استولى عليها الشيوعيون بالحيلة، وتمسّكوا بمقاليد السلطة بيد من حديد.
لم يتخلَّ الشيوعيون عن قبضتهم الحديدية حتى نهاية الثمانينات، فتكوّن تنظيمهم الفاعل قد أبقاهم في السلطة سحابة ثمانية عقود طويلة وسقطوا في نهاية المطاف بسبب تعثّرهم في التنظيم.
سيطر الديكتاتور الروماني والمقرّبون على عشرين مليون روماني سحابة أربعة عقود لأنهم حققوا ثلاثة شروط حيوية: فلقد وضعوا، أولاً، أجهزة شيوعية موالية لمراقبة كل شبكات التعاون كالمؤسسة العسكرية والنقابات وحتى الأندية الرياضية، وحالوا، ثانية، دون إنشاء أية تنظيمات معادية - أكانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية - ومن شأنها أن تؤلّف منطلقاً لتعاون مناهض للشيوعية، وهم اعتمدوا، ثالثاً، على دعم الأحزاب الشيوعية الشقيقة في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية. وعلى الرغم من نزاعات موسمية، ساعدت هذه الأحزاب بعضها بعضاً عند الحاجة، أو أقلّه عاهدت على أن لا يتدخل غريب في شؤون الجنة الاشتراكية. وفي إطار هذه الأسباب، عجز عشرون مليون روماني، على الرغم من المصاعب والمعاناة من قِبَل النخبة الحاكمة، عن تنظيم أي معارضة فاعلة.
عندما أطاح أهل رومانيا زعيمهم وهو يلقي خطابه الشهير، لم يكونوا قد أعدّوا العدّة لتنظيم أنفسهم. القصة نفسها شهدناها عام 2011 في الثورة المصرية. أسقط مبارك كما أسقط تشاوشيسكو، نزل مئة ألف بشري إلى ساحة التحرير من غير أن يعدّوا العدّة لملء فراغ الرئيس المخلوع. ففي مصر مؤسستان منظمتان تنظيماً كافياً لتسلّم زمام الحكم: المؤسسة العسكرية والإخوان المسلمون.
لا قائمة لثورات عربية في معزل عن غوصنا على عوالم الكائن البشري بدلاً من ركوننا إلى الخطابية الجوفاء وأمراض الأنا القاتلة. ما تفتقر إليه انتفاضاتنا المحقة في معظم الأحيان، هو ذلك التعاون والطواعية في ضوء الوعي. مشكلتنا كامنة في ازدواجياتنا القاتلة. فما أكثر المرائين عندنا وما أشدّ خداعهم ونفاقهم. فهم يتلوّنون تلوّن الحرباء، ويراوغون مراوغة الثعلب، ويتظاهرون بطيب القلب، وصفاء النفس، والاخلاص في الصداقة، حتى إذا وثقت بهم، واستسلمت لهم، انقلبوا عليك، وأعلنوا ما خفي من أمرك، وراحوا يشوّهون الحقائق، ويختلقون الأكاذيب، وينشرون ما توحيه إليهم ضمائرهم الفاسدة، وعقولهم المريضة. المرائي جرثوم مجتمعاتنا، وعلّة ما يثور فيها من آثام وشرور. تراه كالحية الرقطاء، يسعى إلى الآمنين المطمئنين، لينفث بهم سمّه الزعاف، وليزرع بينهم الشقاق والخصام، بما يلفّق من أقوال، وبما ينثر من وشايات دنيئة معيبة.
ينخدع الناس بذي الوجهين، لما يبديه من رقّة في الحديث، ولما يجود به من سند يؤيّد به قوله، ويدعم به أباطيله وأوهامه. فهذا المخلوق، لا يتورّع في سبيل الوصول إلى مآربه السافلة، عن أن يُقسم بالله العليّ العظيم، أو بحياته وحياة مَن يعزّ عليه. أما شرفه فإنه يحلف به، ليقينه أن لا شيء يضير الشرف المنشود. فلنركن إلى شرفائنا العقلاء الذين هم يمهّدون لكل ثورة حقيقية.
أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه