بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 تشرين الأول 2019 12:03ص جريمة هجرة الأدمغة

حجم الخط
في إطار موضوع الكفاءات في لبنان يمكننا القول أن الدولة اللبنانية كمؤسسة إدارية لا تقوم بما يتوجب عليها على صعيد تقويم العلم والعلماء والبحث العلمي والتخصص وأنواعه وتوزيعه. وبذلك تنتفي المقاييس التي يمكن استعمالها وخاصة على صعيد التخصص لتعرف ما هي بحاجة إليه وما ينقصها منه. ولا بد من التفكير بوسائل أكثر ملاءمة مع الظروف والأوضاع ومخططات التنمية القائمة على دعم الأدمغة. فمنذ آلاف السنين كان الرأسمال البشري الكفوء هو رأسمال لبنان، وقد أعادت الثورة التكنولوجية الى الدماغ مكانته السامية واعتبرت الإنسان أسمى رأسمال، لذلك بات على لبنان واجب حتمي ينبع من واقعه وذلك بتنظيم هذا الرأسمال البشري لكي يتمكن من الاستمرار والنهوض في عالم لن يكون البقاء والسيطرة فيه إلا للإعداد والتنظيم والإبداع، في الوقت الذي كانت تفوّت الفرص من الإفادة من أي انتاج علمي أو تقني يقوم به مبدعون لبنانيون نتيجة عدم توافر الشروط الاقتصادية لذلك نجد العديد من الأدمغة اللبنانية المعاصرة قد تألّقت في الغرب وأسهمت في العديد من الاكتشافات العلمية والتقنية الكبيرة لتوفّر البيئة العلمية لها.

ان الحياة تدعونا دائماً لاثبات حضورنا فيها وتعرّضنا لامتحانات صعبة لإثبات ذلك الحضور كما تستثير ذواتنا للتعبير عن تمايزنا وحيوتنا إذ بذلك نعيش حياتنا بجدارة القابضين على زمام الأمور وان حضورنا الفعلي في معترك الحياة هو في اخلاصنا للعلم وأهله على أساس الإيمان بالله وبالذات وبالوطن وفي تصدّينا لواقعنا المضرب وإيجاد السبل الكفيلة للاحتفاظ بثرواتنا وخاصة الثروة البشرية المعطاءة. ومن هنا نبدأ بمواجهة الواقع بغية تغييره وتعايشنا مع عالم قوي في قصر فيه (للعلم سطوة) وللثقافة العالية مكانة وغلبة، عصر يوظف فيه أصحاب الفكر والهيمنة ما ملكته الإنسانية من معرفة وعلوم وذلك باجتذاب أهلها من كل أرجاء الدنيا واستقطابهم لخدمتها وترك الآخرين يغوصون في بحر الانعزال والتخلّف والضياع خاصة عدم توفير الفرص لكفاءاتهم التي تفتك بها البطالة والفاقة التي خلّفتها ظروف سيئة في بيئات لم تتمكن أو لم يسمح لها بأن تتمكن من تطوير ذاتها بالإفادة من خبرات أبنائها لتفجير طاقاتهم على الإبداع والانتاج القادرة على هضم تقنيات العصر وتطوّر فنون المعرفة.

ما أحوجنا الى مراجعة ذواتنا في إطار هذا الموضوع لنرى كم قصّرنا ولا نزال في حق الموهوبين والمبدعين والمتألّقين من أبنائنا وذلك بتوفير مناخ العمل السليم لهم بين أهلهم وذويهم وفي مناخ قيمهم السامية بدلا من الهروب الى الخارج وبذلك يمكنهم الشروع في بناء مستقبل أفضل بثقة واقتدار.

الأوضاع الاجتماعية الهزيلة أو عدم توافر فرص العمل قياساً الى المستوى التخصصي والعلمي وعدم الاهتمام بالعلماء والمتخصصين وذلك بإبعادهم عن المشاركة الفعلية في المسؤوليات وإدارة الشؤون العامة وهذا مما أسهم في دفعهم الى الهجرة وترك أوطانهم تتخبّط في الفوضى والضياع.

كما ان التوزيع العشوائي لمعظم المتخصصين في بعض أجهزة الدولة ومؤسساتها المختلفة بصورة لا يضع فيها الرجل المناسب في المكان المناسب يترك آثاراً عميقة في شكل هذا المجتمع وفي محتواه في الوقت ذاته. فالصدمة التي تلاحق المفكرين والعلماء وأهل الثقافة في هكذا مجتمع هي من العوامل الرئيسية الكامنة وراء الهجرة المستمرة للعقول البشرية الممتازة خارج أوطانهم. لقد دلّت الدراسات على ان خسارة لبنان في هذا النوع من أهل العلم والاختصاص أهم بكثير من خسارة الأشخاص ذوي كفاءات محدودة.

غير انه لا يجوز للبنان أن يتساهل في موضوع هجرة أبنائه العلماء. إذ انه اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى الى قواه العلمية العاملة والمخططة.

ان الاعتراف بالخطأ وقول الحق هما بداية الاستعداد لتغيير الرأي والموقف وتحقيق نتائج ذات مردود إيجابي لمواجهة التحدّيات الكبيرة وما أكثرها اليوم وخاصة التحدّي الصهيوني في عقر دارنا.

وكم نحن بحاجة اليوم الى نوع من التعاون بين السياسي والمثقف وهما يعملان من أجل أهداف أسمى، أبقى، وأهم من أفرادهم ونزعاتهم وتنازعهم، انهم يبقون في ذهن الناس وتاريخ الوطن والأمة طالما اخلصوا للناس وللوطن والأمة. إذ ان التسلّط داء يمنع أهل السياسة من رؤيا الأهداف الكبيرة والطريق الأسلم للنهوض والتقدّم.