بيروت - لبنان

اخر الأخبار

27 أيلول 2022 12:00ص حـامـلــو الـنــدوب

حجم الخط
ليس الإنسان وحده، هو حامل الندوب القديمة، هو حامل الآلام، هو حامل الجروح. ليس الإنسان وحده، هو الذي يحمل كشة الهموم على ظهره، طوال عمره. تتجمع في قلبه غيمة غيمة. تتجمع في نفسه غمة غمة. تتجمع في روحه، غصصا، كلما مضغ غصّة، زادته غصّا.
ليس الإنسان وحده قفّة هموم، تولد معه، ساعة يولد، وتنمو معه، تماما كلما نما، وتكبر معه وتعظم، تماما كما يكبر ويعظم. ليس الإنسان وحده الذي يحمل على ظهره، عظام معاركه الخاسرة. ليس الإنسان وحده، الذي يحمل على ظهره كيس أتعابه. ليس الإنسان وحده الذي ينتعل دروب الشوك منذ نعومة أظفاره. ليس الإنسان وحده الذي يغرس حبة، يغرس شتلة، يغرس فلقة النوى، في شقوق الأرض، في شقوق الصخر، في ثلم غشيم من ثلوم الأرض. ليس الإنسان وحده: تويجه شوك، وبدنه مسامير، وعيونه من دموع ودماء. ليس الإنسان وحده، كأسه مترعة بالعويل وبالبكاء. ليس الإنسان وحده، ساعة من حزن، وساعة من يأس. ليس الإنسان وحده إنشوطة من عذاب. ليس الإنسان وحده، حقلا من القهر، ومستودعا من بكاء. ليس الإنسان وحده، قافلة من ماء. قافلة من دم، قافلة من حبر. ليس الإنسان وحده، يحمل في ذاته تناص الولادة والوفاة، تضاد الحياة والموت. ليس الإنسان وحده شريك التراب والماء والهواء والنار، ولذلك فهو شريك كوني، لكل ما في هذا الكون من عذاب.
ليس الإنسان وحده، حامل، منذ ولادته، كل هذي الندوب. إسألوا شجر الطريق، كم عبرت بها السنون.. كم عبرة تركت على جذعها، على أوراقها، على أغصانها.. كم ثمرة وقعت منها، سقطت في الطريق. سلوا الغابة البعيدة، كيف تمضي الليل وحدها في السكينة القاتلة؟ كيف تتشح بالسواد ليلها ونهارها، ولا تملّ من ترجيعة حزينة؟ كيف تمضي عمرها، تصارع الريح وحر الشمس وقيظ الصيف، وفؤوس الحطابين في صقيع الشتاء.. ثم إذ هي تحن لقيل النعاج، لقيل الرعاة، وتمنحهم ظلها؟!
سلوا تلك الصخرة المعمّرة، كيف تشهد كل المعارك حولها ولا تملّ صمتها، تشهد نزول الصواعق على رأسها، تشهد عبور السنابك على الخيل. تمضي عمرها، تعد نجوم السماء. تخطئ أحيانا، فتعيد الكرّة كرتين، بلا ملل، بلا ضجر، بلا تذمر من غدها.
ليس الإنسان وحده، حمّال الندوب، حمّال كل هذا الأسى. سلوا نبعة الماء الجريحة.. سلوا كركرتها الجريحة، منذ أول الدهر، لا يمل لسانها عن الثرثرة بأحداثها، بما جرى لها من عبور الأكف بها، لطمها، صفعها، نزحها بالجعاب، وبالقراب العطاش، تطلب جوزية ماء، تشحذها، ثم تمضي في الطريق، بعد أن ترمي حجرا بها.
سلوا هذي الحقول، هذي البساتين، هذي المروج، هذي الحفافي.. كم ندوبها عميقة؟ كم مرة ناوشتها الرياح؟ كم مرة ناوشتها العواصف؟ كم مرة داستها حوافر الخيول المطهمة، جرحتها، تركت في نفسها عقدة مزمنة من عد الندوب التي برحتها؟
عصفورة العليقة الحائرة، كيف تمضي عمرها، تعدّ ريشاتها التي نتفها الشوك منها عنوة، عند صباح قارص، عند فجر غامض، عند مزراب عين، طارت إليه لتأخذ قطرة ماء بمنقارها. كيف لهذه العصفورة أن تحصي جروحها، في الجناح وفي الرقبة؟ كيف تحصي وخز إبر الشوك من عليقة علقت بها، من قضيب الدبق الذي سلخ جلدها، من صليل الفخ الذي أمسك بها، من عيون صائد، من عيون فأر، من عيون قطة سوداء، من عيني حية تسعى؟!
ليس الإنسان وحده، حامل الندوب، شركاؤه كل هذي الرواسي، كل هذي الجبال، التي تغرق بالبكاء، حين تنهمر السماء، مطرا وثلجا، وتهزّها العواصف هزّا. هلا رأيتم جبلا تهزّه الريح، تكرّ صخوره الرعود والصواعق والسيول، مثلي أنا؟! هلا رأيتم جبلا يدق على ذقنه، يكبه للذقن، حين يحمله السيل على مغادرة أرضه، ويحفر له أخدوده، ويترك عليه ندوبه ملأى الدهور، ملأى السنين، ملأى الثواني العاصفات به عصفا؟!
جريحة تلك الريح الصرصر، التي أقبلت تحت جنح الليل، تجتاح غابة الشربين، غابات الصنوبر، غابة الأرز. تلقت الطعنات بالغصون التي براها الزمن. جعل منها فولاذها، لردع العاديات، لقهرها، إذا ما إشتطت منها لوثة الغضب. حملت عاصفة رأيتها ذات يوم على سفح جبل، كل ندوبها، وغادرت جريحة مثل كوكبة من خيول الغزاة، التي فاجأها معسكر بربري.
حاملو الندوب، منهم قمر في الأعالي، لا تطاله الأيدي، لا تطاله العيون.. ترى في وجهه الجميل خدوش الزمن العتيق. ترى هامته ثقيلة من التعب. ترى أثر الدموع على خديه. ترى مجرى دموعه بأم العين.. فتشهق له: هل القمر أيضا حامل مزمن للندوب؟!

أستاذ في الجامعة اللبنانية
أخبار ذات صلة