بيروت - لبنان

اخر الأخبار

1 تموز 2022 12:00ص حافة الجنون

لوحة لـ عمران القيسي لوحة لـ عمران القيسي
حجم الخط
أروي قصتي هذه، كما هي.. أفقتُ البارحة، كالعادة، في الرابعة فجرا.. وكالعادة أيضا، كانت الكهرباء مقطوعة.. إستعنت بكاشف الهاتف: تدوّشت وخرجت. أتبعت ذلك، كالعادة، بحلق ذقني. وضعت الهاتف بجانبي، للإستعانة بالكاشف. إنزلق على الفور، بدلاء الماء المركونة بإزاء المغسلة، إنتشلته على الفور، وجففته من البلل. وأنهيت مهمتي، وعدت إلى مرقدي، أطمئن على سلامة الهاتف الإلكتروني. إستطعت أن أنزع عنه «الكوفر»، ولاصق الحماية للشاشة. مسحته من جديد، ويداي ترتجفان من خشية تعطّله.
ظهر ما كنت أخشاه.. كلما إستعنت به، يضطرب بين يدي.. أينما لمست الشاشة، أجده ينتفض.. تتداخل الأوامر فيما بينها باللمس الخفيف، مثل الأجهزة الأمنية عندنا. آمر أنا الهاتف، بأن يعطيني الشاشة العربية، فيأتي الجواب بالعودة والرجوع. آمر الهاتف بالرجوع، فتأتيني الشاشة الأجنبية. آمر الشاشة بالإغلاق، تفتح الشاشة على مصراعيها. آمر بفتح الشاشة من جديد، فتغلق تماما، ولم يعد بالإمكان فتحها. فنمت بعد ذلك وقلت في نفسي بعد عجزي عن فعل أي شيء: «الصباح رباح».
باتت كل الأوامر الموجّهة لأجهزة الهاتف، تتداخل مع بعضها. صارت الشاشة، كـ «فيللا رياض سلامة»، جنود قادمون من جميع ألوان الأجهزة، تريد الحاكم.. يتداخلون مع بعضهم، فيحدث الهرج والمرج.. ولا أحد يعرف كيف يسلك لتنفيذ الأوامر.
أريد إغلاق الشاشة، فيضاء قسم منها، ويسودّ قسم آخر. وتظهر الحروف المبعثرة في الأعلى، مثل «أجهزة الدولة».
شعرت، وأنا أتابع تعقيدات الأوامر المتداخلة، كأنني في «عصفورية» الأجهزة، كل عصفور يغرّد على ليلاه. ثم آتي لأنهي المسألة، مثل مايسترو العصفورية، فتهبّ العصافير جميعا، أصابها «جنون الطير».
لا أستطيع أن أصل إلى البطارية لإنتزاعها. فالجهاز نفسه، أغلق عليّ. أودعته بجانبي، وصرت ألتفت أتفقّده بكل هدوء، حتى لا يصاب بـ«المس». ثم غفلت عنه ونمت، بعد ساعات من معركة تشويش الأجهزة. وحين أفقت; كانت جميع الأجهزة قد إنقطعت عنها الكهرباء، ودخلت في العتمة. فعدت للإستغراق في النوم.
نهضت في الصباح، مثل «حاكم ملطوش».. ما كنت أحسن إرتداء ثوبي. شعرت أن خلل أجهزة الهاتف، قد تمدّد إليّ. صرت أحسب كل إضطراب عندي، هو من آثار إضطراب أجهزة الهاتف. فما أحسنت إختيار ثوبي، ولا أحسنت إدخال يدي ورأسي في أكمام القميص وفتحاته.. إعتم عليّ كل شيء واضطرب. وأما مسألة إنتعال حذائي، فرأيت منها العجب في الشارع.. كل فردة من حذاء مختلف. فهرعت إلى البيت كجهاز ممسوس، لأصلح من هيئة قدمي. انتظرت أمام المصعد لدقائق: لا أعرف كبسات المصعد.. اضطربت عليّ. إلتبست وظائف الأزرار عندي، مثل طفل آتٍ من الريف، إلى وزارة التربية، لا يحسن إستعمال المصعد، ولا يحسن أيضا، الوصول إلى الدائرة، ولا يعرف مداخل الوزارة ولا مخارجها، ولا رئيس الدائرة، لطلب نسخة عن شهادة «السيرتفيكا» التي فاز على أقرانه بها.
أنقذني «ناطور البناية»، حين وصل، وصعد. فصعدت معه. وضع يده على الزر المطلوب، وأنا مشغول بالحديث معه، عما أصاب هاتفي في ساعات الفجر. قهقه، ودفع بالباب، وقال: تفضّل. فإرتبكت وخرجت.. كنت أشعر أن كل هذا الإرتباك، هو بسبب الماء الذي تسرّب إلى الهاتف.
هكذا كنت وأنا أبحث في دكاكين صيانة أجهزة الهاتف المضطربة، لعودتها لصوابها، ولحسن تنفيذها الأوامر.
كنت أشعر بتسرّب الماء إلى كل من تناول هاتفي من يدي لينظر فيه: أراه يضطرب مثل الجهاز.
في المرحلة الأخيرة، وقفت إلى معلم صيانة الهواتف والإلكترونيات.. رأيته يهتز، لمجرد ما قصصت عليه قصة هاتفي. قلت له: «لحقو بلل».. ولم أحدّثه عن دلاء الماء في الحمام، قبل رفع تسعيرة مياه الدولة في مجلس الوزراء، ولا تحدثت معه، عن إنقطاع الكهرباء، طيلة الليل والنهار فقط، قبل رفع التسعيرة للدولة وللمولد على حد سواء.
كنت أبسّط الموضوع، على أنه أمر بسيط، وأن أي معلّما له أدنى مسكة بالهاتف، يحسن إصلاحه فورا.
خاب ظني.. المعلم الأول: وصل إليه الماء، كما وصل إلى الجهاز. شعرت بذلك وهو يمهلني ويتماهل معي ويضيّع عليّ وقتي وجهاز الهاتف أيضا.
شعرت مع المعلم الثاني، الذي طلب مني خمس دقائق.. فإنتظرت على الكرسي لثلاث ساعات، لا أجرؤ على أن أنبس في حضرته بـ«بنت شفّة»، حتى لا يضع الحق عليّ.. فتعظم فاتورة الهاتف، كما فاتورة الدولة، وسائر أجور معلّمي صيانة الهاتف، قبل إنجاز صيانته.
طلب المعلم أن أراجعه، إذا شعرت بخلل ما في عمل الهاتف، وقد غابت الشمس، وحلّ الليل البهيم. خرجت من دكانه مثل سائر البهائم، وعدت إليه سريعا، قبل أن يقفل المحل، ويهرب من رؤية وجهي.
بعد ثلاث ساعات، على يد معلم جديد: كنت أنظر عمله من خلف الزجاج، بـ«حيث أراه ولا يراني»، كما الأعرابي «عبيد» في مقامات الحريري، حتى لا يصاب مثلي بالإكتئاب، ردّ إليّ هاتفي.. قال: «جرّبو هذه المرة.. وحاكيني بكرا».
شعرت بحسن تنفيذ الأوامر على الجهاز، مثلما أحسنت فرقة بايدن في تفجير «مسؤول داعش» في ناحية من الحدود التركية - السورية، في أطمة ودير بلوط من ريف إدلب الشمالي.
وها أنا أمضي ليلي، وقد جفّ من ثوبي الماء وجفّ من هاتفي أيضاً. وعاد إليّ وجهي، الذي شعرت به إبنتي في نيويورك، بأنه تعرّض لهزّة أرضية.. عاد وجهي من شلل جزئي. كل من رآني يوم هذا الأربعاء، حدثني.. قال: «شو باك».
عاد إليّ هاتفي، من تداخل الأجهزة فيه. عدت من تداخل الأجهزة في بدني طيلة النهار، منذ سقوط الهاتف في الدلاء.. تماما مثلما عادت الأجهزة، من «فيللا سلامة»، إلى وزارة الداخلية بـ «سلامة»، بدون «رياض سلامة». وها أنا أخفي على نفسي، أني عدت من «حافة الجنون»، تماما مثل أجهزة معالي وزير داخلية لبنان، «القاضي المستنير»، رياض مولوي.

أستاذ في الجامعة اللبنانية
أخبار ذات صلة