أغربُ ما في مظاهر الأزمة التي نعيش ونرزح تحت نيرها الثقيل وليلها الطويل ونفقها المظلم الأسود الذي يحيط بعتمتِهِ جوَّنا الملبّد بغيوم الظلم والتعدّي على أموالنا المودعة جنى العمر مهدّدٌ بالتبخّر على نار التجبُّر والتعنّت والجورِ.
أغربُ في هذه الحرب الاقتصادية الهيركاتيّة أن المسؤولين يتلهّون بالكيدية والنكد والنكايات حول تقاسم الحصص فيما الجوع يُهدّد حياة عشرات بل مئات الآلاف من اللبنانيين، والعوز يدفع بشريحة منهم - ليست بقليلة - إلى التفتيش بين مستوعبات النفايات عمّا يسدّون به جوعهم «الكافر» على حدّ ما تقول مسرحية زياد الرحباني منذ عقود..
* * *
قال الشاعر:
«وطني لو شغلتُ بالخلدِ عنه
نازعتني إليه في الخلدِ نفسي»
لكنني لا أظنّ أن هذا البيت من الشعر يصلح للإنشاد في وقتنا الحالي... لقد راحت راحةُ البال إلى غير رجعة وحلّ مكانها وجع الرأس والصدّاع ما يستدعي تناول المهدّئات والأدوية الدائمة لأمراض مستعصية أو مزمنة أو تحتاج لعلاج «دائم»..
* * *
في القرن الماضي كتبت متفائلاً أقول:
«بلادي فيك اختصارُ المدى
أديمُكِ نفسي من المبتدا»
وها أنّا في هذه الأيام الصعبة، أتراجع عن هذا البيت لا بل أندم على نظمه منذ أكثر من 24 عاماً. وتعلمُ أيها القارئ - أخي في المواطنية الحقّة - ماذا أعني بذلك!؟..
* * *
وبعد، أُحسُّني أميل إلى تغيير تصرّفي المنضبط المهذّب حتى انتزع حقي انتزاع المظلوم الذي يحاول دفعَ الاستبداد عنه... وقديماً قيل: «السّاكتُ عن الحق شيطان أخرس».. وقيل أيضاً: «ظلمٌ في السوية، عدل في الرعيّة» وأنا أرى أن عدالة الأرض ليست بكاملة في زمن لا نرى فيه العاري لنكسوه ونلبسَهُ إلّا إذا كان امرأة، ولا نرى الحفاة حتى لا يُطلب منا شراء أحذيتهم لهم، لكن كل من كان في صف مواطن عادي، واشتمّ رائحة «باطه» وصار حديث النعمة، ينسى أنه كان جائعاً أو مريضاً أو فقيراً.. هؤلاء قال فيهم ولي الدين يكن: «عقولٌ بخواتم ربِّها لا تمسَّها فائدة»!..
* * *
غداً ألملم ذكرياتي وأجمعها على بيدر العمر لأكتبها للأجيال الطالعة، سأكتبها بكل موضوعية لأن قسماً منها مكث في ذاكرة جيش كان ولا يزال خشبة الخلاص وصمّام الأمان في لبنان - تجربة العرق والدم والتعب خدمة للقسم والعلم، أدوّنها بقلم الحبر ممزوجاً بالصدق والوفاء دون تحريف أو تحوير للحقائق.
وأعتذر من الجميع فمناقبيتي تمنعني من التطرق إلى أمور يُسيء ذكرها إلى الجيش والبلاد والعباد، سأشير إليها بأسلوب مجرّد عن الحساسيات. ضناً بالقسم ووفاء لدماء الشهداء الأبرار الذين سقطوا على مذبح الوطن الجريح وأردد بيتاً من الشعر نظمه يوماً عقل الجرّ الشاعر المهجري قال:
«وطنٌ بالدموع نسقي ثراه
إن توانى الغمامُ عن إمطارِهِ»
أما شقيقُهُ شكر الله فيقول:
«قد عجنّا صخوره وجبلنا
تربَهُ من عظامنا ودمانا
هيّن أن تنال بالإصبع النجم
على أن ينالنا عقبانا...»
لن أغوص بالتحليل الجيوسياسي (Geopolitique) ولن استعير نظريات الاستراتيجية القديمة والمتجددة وقد خبرتها على الأرض وعلى جبهات الأمس في الحروب المتتالية، لكنني أوجزُ لأُنهي: عبثاً نحاول أن نستدرج الخارج ليتدخل في شؤوننا ولن ينقذنا إلا الإنعتاق من ارتباطات الخارج لنتولّى نحن اللبنانيون جميع أمورنا.
أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه