بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 أيلول 2022 12:00ص حديث عن الصوامع

حجم الخط
ما أقسى أن تسقط أمام عينك صوامع القمح، ويبقى هؤلاء التعساء المناحيس الثقلاء التماسيح، من أهل السلطة في صوامعهم. ما أقسى أن يحترق قلب حبة القمح، لأنها حوصرت بنيرانهم حتى لا تصل رغيفا، إلى يد الفقير. ما أقسى مشهد تهاوي الصوامع الشمالية، أمام عيون الصوامع الجنوبية التي تنتظر نفس المصير. ما أقسى مشهد الرغيف الساخن، الذي لم يعد «ترتينة» في أيدي الصغار الذاهبين إلى أوتوكار المدرسة، وجعبتهم فارغة من «الترتينة» وعبوة الماء. يطلبون المدرسة بأمعاء خاوية.
ما أقسى مشهد التماسيح، يتناظرون على الشاشات، على المنابر، على المزابل، والنار تأكل ما تبقّى من صوامع القمح، بعد مرور سنتين على الإنفجار. ما أقسى أن تسمع نقيب السلطة، «يفتي» بهدم الإهراءات.
تماسيح السلطة ونقيبها، وحدهم، لا يغادرون أرض الجريمة بالمرفأ، كأن ليس لهم شغل إلا هدم الصوامع، إلا السهر على هدمها، إلا حراسة هدمها، إلا محو آثار الجريمة، مهما اشتدّت الأزمة.. ومهما ارتفعت أصوات الأهالي، لمناداتهم بالإبتعاد عن مسرح الجريمة، وعدم العبث به تحت طائلة المسؤولية.
جريمة العصر، جريمة المرفأ، كانت وستبقى وصمة عار في جبينهم، يحملونها معهم إلى قبورهم، تفتي لأهالي شهداء المرفأ وللبنانيين جميعا، وللأطفال الذين حرموا الرغيف، أن يرجموهم أحياء، وفي قبورهم، إلى أبد الأبدين ودهر الداهرين. فأهل السلطة في عيون الناس، في لبنان، وفي مشارق الأرض ومغاربها، هم شركاء في جريمة المرفأ لأنهم كانوا وما زالوا، من المسهّلين للجريمة، من المتسترين على الجريمة، من الساعين ليلهم ونهارهم، لطمس معالم الجريمة، لأنهم يعرفون العدو الذي فجّر المرفأ.. ويعرفون جميع ذرائع التفجير.. ويعرفون أنهم، كانوا على علم مسبق، بقرب موعد حصول جريمة التفجير. وما أبهوا لذلك كعادتهم، في كل «الجرائم الغامضة» التي نالت من المخازن والبيوت والمجمعات والغابات، حتى أنها لم تنجُ منها الأزقة ولا الحارات.
أهل الجريمة، مؤهّلون لكل شيء لأجل طمسها. ففي ذلك منجاة لهم، كما يظنون، من كشف بصمات أيديهم، وبصمات عيونهم، وبصمات نفوسهم الشريرة، من كشف تآمرهم، من كشف مشاركتهم، من كشف دورهم، الذي تسبب بالجريمة، الذي صنع الجريمة.. والذي يفتي اليوم بطمس الجريمة، بهدم الجزء الشمالي، من الصوامع، وبهدم الجزء المتبقي، غدا، منها.. فتمسح معالمها تماما. ثم يدعون الناس لنسيانها، بحفنة من المال نفسه الذي موّل الجريمة.. بحفنة من مال من تسبّب بالجريمة.. بحفنة من مال من تصيبه النِعَم القادمة، من الجريمة.
تماسيح السلطة، التماسيح السلاطين، التماسيح المشاركين، التماسيح المسببين والمتسترين والمتعهدين بإخفاء الجريمة، كما العدو المفجر.. كلهم واحد في لبوس الجريمة.
لا يميّز شهداء المرفأ ولا أهاليهم، ولا أهل لبنان، ولا سائر الشرفاء في العالم، بين الفاعل، وبين المتسبب.. وبين المتستر، وبين الداعي والراعي، إلى طمسها.. وبين «المفتي» بهدم الصوامع الشهيدة والجريحة. فكلهم واحد اليوم، في عيون الناس، في هول الجريمة.
ينهض الأهالي، ومنهم أهل لبنان، ومعهم أهل الشرف وأهل الكرامة وأهل السيادة، ومعهم أهل الوطنية الصادقة والغيورة، للكشف عن الجريمة، فينهض المتسترون على العدو لهم.. ما هذه المفارقة! هلا بذلك، يخشون الفضيحة؟ كيف نواجه؟ كيف نقاوم؟ كيف إذن نشارك بالتستر؟! تلك هي المعادلة البائسة.. تلك هي المعادلة اليائسة.
قسوة سقوط الصوامع، هدمها، بعد عامين على التفجير «الغامض»، يجعل الناس يسألون عن جميع الفاعلين، عن جميع المشاركين، عن جميع اللاعبين، عن جميع المسهّلين والمتسترين والداعين للكفّ عن السير بالتحقيق، وهدم ما تبقّى من الصوامع الشامخة، وأخذها بدعوى مغرضة لهدمها. وغدا ربما، يؤخذ الأهالي، بدعوى مغرضة مثلها، حتى لا يجلو القضاء الجريمة.
الصوامع الجاثية، مثلها الصوامع الصامدة الباقية، تشهد على هول الجريمة. وهي ملتصقة بأرض المرفأ، ملتحمة بالتراب وبالماء وبالنار وبالهواء، لأنها عاصية على الفناء. تشهد على جريمة دُبّرت بليل.. جريمة فاعلها إثنان لا غير: المجرم والمتستر عليه. وهما إلى الآن، لا يبرحان مسرح الجريمة، بل يعبثان فيه، يعبثان بكل الأدلة، بكل العناصر، بكل الشواهد، بكل القرائن.. والهمّ واحد: طمس معالم الجريمة.

 أستاذ في الجامعة اللبنانية