الانتخابات في لبنان، مثل الإشتباكات في الغابات، مثل صراع الديكة في الساحات، مثل التهارش قديما، أمام التنور، أو التهارش اليوم، أمام الأفران، أو محطات الوقود.
تتعالى الأصوات، وترتفع المتاريس، وتشتدّ الجبهات، وتحتدّ النفوس، فتتسلل إليها الحماقات.. فتظهر المواقف متمازجة معها، فلا يظل الحكيم حكيما، ولا يظل العاقل عاقلا.. وتفسد قواعد اللعبة.
ذلك لأن الإنتخابات، ليست في الأصل إلا طبخة فاسدة كثيرة الأغراض، كثيرة العناصر، كثيرة الأهداف والحاجات.. وما يبنى على الفساد، يتحوطه الفساد ما دام على قيد الحياة.
معركة الإنتخابات اليوم في كل لبنان، سداها ولحمتها، سلاح المقاومة، والباقي تفاصيل. والمعركة الإنتخابية كلها تدور على المكشوف، بين محورين: محور المقاومة، ومحور نقض المقاومة. لأن لبنان اليوم محكوم بإتفاق الطائف، منذ العام 1989، وهو الذي شرّع المقاومة، وشرّع سلاح المقاومة، وجعل «الإعمار» بيد، وجعل «الأعمار» بيد، خطان متوازيان، لا يلتقيان إلا بإذن الله. وإذا ما إلتقيا، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
كان الطائف وليد الإنتخابات. وما بُني على الإنتخابات، فلا يدوم، ولا ينقض، إلّا بالإنتخابات. ولهذا نرى اليوم كل هذا الدخان الخفيف والكثيف، الذي يسبق الخامس عشر من شهر أيار الحالي، الموعد الذي حُدّد لإجراء الإنتخابات.. الموعد الذي يحدّد الفصل، بين التأكيد على إستمرار سلاح المقاومة، أو على نقض هذا السلاح. فهو بالتالي، يؤكد أمرا واحدا: «حرائق الإنتخابات».
نعم.. هذا الدخان الذي نراه يقوى ويشتدّ، يوما بعد يوم، في لبنان، أكثر ما يشبه الدخان الذي تصاعد، العام 2004، من وسط «كييف»، وأنتج الإنتخابات.. وأنتج بالتالي، كل هذه الحرائق التي تشتعل اليوم، كرد بليغ على هذه الإنتخابات.
على اللبنانيين أن يعرفوا مسبقا، أن هذا الدخان الذي يرتفع اليوم، فوق سقوف الإنتخابات، إنما سوف يقوى ويشتدّ، ويصبح بطعم «دخان» كييف وخاركييف، وماريبول، في بلاد الأوكران.
ربما هناك من يتحدث عن «المؤتمر التأسيسي»، كحل بديل عن «الطائف»، بعد الإنتخابات. يذهب الناس إليه، بعد أخذ القرار بالإنقلاب على «الطائف»، طمعا بالإنقلاب على «سلاح المقاومة». ولكن ذلك دونه محاذير. فهل يسهل على أهل الطائف، أن يستبدلوا شرعيته بشرعية أخرى؟ أن يستبدلوا، دستوره بدستور آخر؟ هل من السهل على اللبنانيين الإتفاق على «المؤتمر التأسيسي»، الذي يؤسّس للتخلّي عن «الثنائية»، إلى «المثالثة»؟ وإذا ما كان ذلك يرضي فريق المثالثة، فهل هو يرضي، فريق «ثنائية الطائف».. هل هو يرضي بكركي ودار الفتوى؟
وإذا ما تجاوزنا هذا الأمر الخلافي الأصغر، فهل بالإمكان الإتفاق على الأمر الخلافي الأعظم، وهو «سلاح المقاومة».
سلاح المقاومة، لا يدخل في حسابات اللبننة اليوم، ولو بعد الإنتخابات، فهو تجاوز ذلك، بعد خروجه من القمقم اللبناني، إلى فضاء الإقليم، وأيضا إلى الفضاوات الخارجية. دخل فضاء المحور المقابل، لفضاء الناتو. صار المعادل لـ«سلاح الناتو»، بكل التفاصيل.. وصار أكثر مرانا، وأكثر شدّة . وصار بالتالي، أمر عودا. فلا الإنتخابات ولا التعويل عليها، بنافع أصحاب الإنقلاب على محور سلاح المقاومة. فمثل ذلك، صار خارج الحدود، منذ العام 2011، بعد إنطلاق الثورة السورية، وبعد الإنقسام اللبناني التشاركي فيها، منذ ذلك التاريخ، وحتى اليوم.
«حرائق الإنتخابات» اليوم، لا تبشّر بالخير.. فهي تعد بالحرائق القادمة بعد الإنتخابات. إنها لمعركة الحرائق الإستباقية. فكيف يكون الأمر في لبنان، بعدما يتعالى الدخان في صناديق الإقتراع.. ويصير الأمر، إلى هذا المحور أو ذاك من المحورين البائنين: «محور الممانعة»، و«محور الناتو»، الذي يرد عليها اليوم في بلاد الأوكران، وغدا في لبنان. والحرب آنئذ سجال، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
أستاذ في الجامعة اللبنانية