بيروت - لبنان

اخر الأخبار

26 آب 2021 12:01ص حصار بيروت الأبيّة عبر التاريخ (1/2)

الأسطول الروسي يقصف بيروت 1773 بريشة نبيل سعد الأسطول الروسي يقصف بيروت 1773 بريشة نبيل سعد
حجم الخط
يا رَبِّ أَمرُكَ في المَمالِكِ نافِذٌ .. وَالحُكمُ حُكمُكَ في الدَمِ المَسفوكِ
إِن شِئتَ أَهرِقهُ وَإِن شِئتَ اِحمِهِ .. هُوَ لَم يَكُن لِسِواكَ بِالمَملوكِ
بيروتُ ماتَ الأُسدُ حَتفَ أُنوفِهِم .. لم يُشهِروا سَيفاً وَلَم يَحموكِ

من مطلع قصيدة كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي بعد العدوان السافر الذي قامت به السفن الحربية الإيطالية على بيروت الآمنة صبيحة اليوم الرابع والعشرين من شهر شباط/ فبراير 1912. بالطبع لم يكن هذا العدوان هو الأول على مدينة جعلها موقعها عرضة للحصار والصراعات، وغزوات القراصنة والعصابات وشذاذ الآفاق. صراعات وغزوات منذ الألف الثاني قبل الميلاد، تنهض المدينة بعدها في كلّ مرة، ولا يبقى للمعتدي بصمة، سوى أسطر في كتب التاريخ أو نصباً تذكارياً على صخور ضفة نهر الكلب. وهذه نبذة مختصرة عن أهم ما تعرّضت له بيروتنا من حصار عبر التاريخ منذ أقدم العصور وإلى يومنا هذا، انتهت كلّها بخيبة المحتل الذي لم يصب عروس المتوسط إلا بأذى، لعلّها تحمل عبرة لمن يريد تركيع المدينة.

حصار نبوخذنصّر

كتب صالح بن يحيى في تذكرة أسماها «تاريخ بيروت وأخبار الأمراء البحتريين من بني الغرب» ما يلي: «.. وقد ذكر بعض أصحاب التواريخ أن ساحل الشام خرّب في عهد بختنصر(!) [صححها الأب لويس شيخو اليسوعي في تعليقه على الكتاب قائلاً: يريد نبوخذنصر الثاني]... ذلك أن خروج بختنصر على الشام في عهد دولة مهراسف أحد الأكاسرة بفارس، وذلك بعد وفاة سيّدنا موسى عليه السلام بتسعماية وتسعين سنة وقبل بعثة النبي # بألفين ومائتين وتسعين سنة [نبّه الأب شيخو ثم الشيخ طه الولي رحمه الله إلى الخطأ في التاريخ بالقول: لعل كلمة ألفين هنا تصحيف من ناسخ الكتاب، وصحّتها ألف ومائتين وتسعين سنة لأن نبوخذنصر فتح الساحل سنة 586 ق.م. وبعثة النبي كانت سنة 619م.] فدخل بنو إسرائيل تحت طاعته بغير قتال. وبعد توجّهه عنهم غدروا به، فرجع إليهم وأبادهم وأخرب القدس... وخرّب بعض مدن الساحل». ويمكن الاعتماد على ما كتبه بن يحيى بتقدير زمن أول حصار عرفته بيروت وخرابها سنة 586 ق.م.

حصار تريفون

بعد موت الاسكندر المقدوني في شهر حزيران سنة 323 ق.م، دبّ الخلاف بين قادته وتحاربوا فيما بينهم ليتم تقسيم امبراطوريته الشاسعة إلى أربع ممالك على رأس كلّ واحدة منها قائد من قادته الأربعة: بطليموس في مصر، وسلوقس في بابل، وأنطيغونس في آسية الصغرى، وأنطيباتر في مقدونية. وكانت المدن الفينيقية في تلك الفترة تكاد لا تهدأ من الغزوات والاضطرابات تتقاذفها صراعات القادة الإغريق. ففي سنة 230 ق.م. انتقل لبنان وسهل البقاع إلى بطليموس الأول مؤسس حكم البطالسة في مصر، ثم انتقلت فينيقيا إلى يد أنطيغونس بعد خمس سنوات، ثم إلى سلوقس الأول الذي اتخذ أنطاكية عاصمة له، فأصبحت بين قوتين متحاربتين واحدة في شمالها والثانية إلى الجنوب تتنازعان السيطرة عليها. ولكن حبل الأمن اضطرب في المملكة السلوقية سنة 143 ق.م. عندما انقلب ريودوتس على سيده أنطيوخوس السادس الصغير وتفرّد بالسلطة تحت لقب «تريفون» الذي حكم لمدة ثلاثة أعوام انتهت بمقتله بعد إستعادة أنطيوخوس للحكم. وفي أيام تريفون هذا حوصرت بيروت ثم هوجمت وأحرقت وهدّمت مبانيها ونزح أهلها إلى الجهة الجنوبية منها (منطقة خلدة اليوم) وأطلقوا على مكان إقامتهم الجديد إسم «لاذقية كنعان» ظهرت آثارها خلال حفريات تنقيب قامت بها المديرية العامة للآثار في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

حصار يوحنا زيميس

يوحنا زيميس هو امبراطور بيزنطي ولد سنة 925م لأب أرمني. تربع على العرش البيزنطي المقدوني من 969 إلى 976 وتوفي في القسطنطينية عن خمسين عاماً في تلك السنة. وخلال فترة حكمه كان له أطماع توسعية فقام بعدة حملات ضد شعب مسكوب كييف (روس كييف. ومسكوب نسبة إلى موسكو) في منطقة الدانوب الأدنى ثم وجّه جيشه بعدها لمحاربة العباسيين في بلاد الرافدين العليا سنة 972، أتبعها بحملة ثانية بعد ثلاث سنوات أخضع فيها مدن الشام ما عدا مدينة القدس. ويبدو من خلال ما وصلنا أن أقسى وأعنف حصار ودمار كان من نصيب مدينة بيروت.

ذكر الشيخ طه الولي في «بيروت في التاريخ والحضارة والعمران» أن يوحنا زيميس المعروف عند العرب بإسم «الشمشقيق» حاصر بيروت، وعندما تمكّن من دخولها أباحها لجنوده الذين عاثوا فيها وأثخنوها بالنهب والتخريب والتقتيل واستقوا أهلها بالسبي وذلك معاقبة لها على ما أبدته من صمود وشجاعة في مقاومته دفاعاً عن الدين والعرض والوطن. ولم يترك الشمشقيق بيروت إلا بعد أن جعل بنيانها قاعاً صفصفاً وسكانها شذر مذر بين قتيل شهيد أو نازح شريد.

الحصار الصليبي الأول

بدأ هذا الحصار على مدينة بيروت في التاسع عشر من شهر نيسان/ أبريل سنة 1099 بعد تقدم الجيوش الصليبية التي احتشد حوالي 150 ألف محارب منها في القسطنطينية بعد خطاب البابا أوربان الثاني الشهير في السادس والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 1095 والذي طالب فيه الدول الأوروبية بإرسال جيوشها إلى الشرق لاحتلال القدس. ولكن حصار بيروت لم يدم طويلاً ولم تصب المدينة بسوء بعد أن قام حاكم بيروت العبيدي بتوفير المؤن للجيش الغازي وقيام الأهالي بإرسال بعض الهدايا لهم.

الحصار الصليبي الثاني

بعد سقوط طرابلس بيد الصليبيين سنة 1108م، زحف هؤلاء إلى بيروت سنة 1110 بقيادة بلدوين الأول. حوصرت المدينة لمدة شهرين براً وبحراً حتى سقطت، ولكن الغزاة تراجعوا بعدما أرسل الأفضل الفاطمي أسطولاً مصرياً من تسعة عشر مركباً حربية لنجدة المسلمين فيها. واستطاع أهالي بيروت ومن هبّ لنجدتهم هزيمة أسطول الفرنجة إلى أن استنجد بلدوين بقوات جنوى البحرية فأتوه في أربعين مركباً مشحونة بالمقاتلين واستطاعوا دخول بيروت عنوة بالسيف واستولوا عليها قتلاً وأسراً ونهباً يوم الجمعة في الثالث من أيار/ مايو 1110. قال ابن القلانسي في تاريخ دمشق «... ولم يرَ الافرنج فيما تقدّم وتأخّر أشدّ من حرب هذا اليوم»؛ يقصد يوم دخول الصليبيين بيروت التي شهد التاريخ لأهلها بالبسالة والبطولة والتضحية والمقاومة الحقة الشريفة.

حصار صلاح الدين

بعد الانتصار المظفر لصلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في معركة حطين سنة 1187، تابع زحفه واستولى على عكا والناصرة وحيفا ويافا وغيرها حتى وصل إلى صيدا، ومنها توجّه إلى بيروت التي حاصرها ثمانية أيام حتى طلب منه الصليبيون الأمان فآمنهم. ثم دخل بيروت صباحاً في السادس من آب/ أغسطس ونصب السنجق السلطاني على قلعتها. وهي لم تكن المرة الأولى التي يحضر فيها إلى بيروت، فزيارته الأولى كانت سنة 1182 عندما فشل في استردادها من الصليبيين، والثانية سنة 1187 عندما دخلها صلحاً، والثالثة بعد عقده الصلح معهم سنة 1192.

(يتبع)
* رئيس جمعية تراث بيروت