بيروت - لبنان

25 كانون الثاني 2022 12:00ص خدمة الجمهورية

حجم الخط
هناك في الحياة أشواط وأبعاد، نعجز نحن البشر عن إزالة ما بينها من الفروق مهما استحثثنا المطايا، كمن يسبقك مثلًا بالسّن في مجال الأعمار، أو بالوزنات في مضمار العقول.

ولكنّ الفرق الجغرافي بالمسافات، كالبُعد مثلاً ثانياً بين بلاد الأمازون الجبّارة وهذا الجبل اللبناني الساحر، لا يصعب قطعه البتّة، بعد أن أسرجت العقول الرياح، وراحت أحصنة المحركات تصهل في طبقات الفضاء، وتنقلنا قواها في سرعة البرق من قارة الى قارة، وكأننا على جناحي نعامة.

أمام تلك النفّاثات ذات الأجنحة المعدنيّة، تضاءلت المسافات وتقاربت فالتقينا هنا، وجئت القارئ أحمل أمانةً في عنقي، ورسالة في قلبي، وهديّةً في يدي من بلاد العم سام حيث أجول من ولايةٍ إلى ولاية توجيهاً أكاديمياً لطلاب أميركيين في ما هو من إعدادهم رسائل وأطاريح حول الفنون والآداب اللبنانية والعربية على العموم.

إنها مهمّة ما حلمت قط بنيل شرفها، فثمّة مهندسة من جبل لبنان الأشم بعيدة عني جسداً ولكنها حاضرة روحاً، تجلّت، من طريق المصادفة، أجدر مني بتمثيل الفن اللبناني العابر للاوقيانوسات، وهذه هي قسمتي في تجربتي الأكاديمية الأولى في الولايات المتحدة والدنيا قسم وأعتاب.

أجل، يتقدّم اليوم أمامي مشروع المهندسة المبدعة سهام سعد الدين ليقول حاضر! وقد كان شبه غائب في مهرجانات التصفيق والتهليل في وطن الأرز.

إلتقيت من بعيد ومشروع سهام سعد الدين لتشييد مقر صيفي حديث وأصيل معاً لرئيس الجمهورية اللبنانية، وهو مشروع شأن صاحبه المستحق غير مرة فيه أن يتربّع على تلّة الأمير أمين.

وقد نالت بنتيجة تفّوقها وإبداعها في هذا المشروع إمتياز وتفوّق وتنويه في رحاب جامعات روسيا العظمى!، مما أهّلها للمشاركة في المسابقة الدولية حيث نال مشروعها المركز الأول في قسم المباني السكنيّة العامة، ونالت بنتيجته ديبلوماً من اتحاد المهندسين المعماريين الدولي.

إنّه مشروع يترسّم ويرسم الأسلوب الهندسيّ الرمزيّ المميّز، وإبداع في خلق تكامل بين التصميم الداخلي والخارجي بالشكل وبالوظيفة على وجه عملي طريف. فهناك رمزية العلم وألوانه والأرزة التي تتجسّد في كلٍ من الموقع وبرك المياه والمسابح، وينتهي المقر ببرج مراقبة على شكل أرزة تجسّد ثلاثة عناصر أساسية للوجود والحياة وهي: التراب والمياه والهواء.

وهناك أيضاً قناطر عنجر وقلعة بعلبك في الداخل والخارج، تجسّد التراث المعماري... يبقى طبعاً التنفيذ على مألوف عاداتنا اللبنانيّة.

شاءت المهندسة المطبوعة أن تسير على خطى المهندس - الفيلسوف «لو كوربوزييه»، فأدخلت عقل هندستها المعماريّة الى قلب الوطن، وأدخلت قلب الوطن الخافق الى رحاب الهندسة. لقد طوّعت أنبل وأرقى ما في الهندسة والجمالية بروحها المبدعة الخلّاقة وحبها العميق الصادق لوطنها الذي صقل ونقش هذه التحفة الهندسية بروح الوطنية الذكيّة فأكسبها أيضا جديّة من شأنها أن تكسر حلقات الخمول والقساوة على غير صعيد وفي غير مجال.

تجنّبت المهندسة الكبيرة التصنّع فمالت الى أصالة الشكل والتفرّد به. ميّزت بين أجنحة النشاطات والعمل من جهة وموقع اللقاءات الخاصة والوديّة وكذلك مواقع الراحة، فجاء المبنى على طبقات أربع أفقيا، الأولى خدماتية ومرافق رياضية ومسابح وحدائق داخلية وخارجية، والثانية مدخل إستعراضي وبهو فخم يختال ويتباهى بقناطر عنجر وقلعة بعلبك وهو يجمع بين جناحين للاستقبالات الرسميّة والخاصّة منفتحة الارتفاع وقاعة المائدة والطعام وترّاسات وحديقة شتوية، الثالثة والرابعة لغرف النوم والمرافق، التابعة للرئيس وزوجته وعائلته وكذلك للضيوف المقرّبين تلفّها ترّاسات وأحواض زهور وينتهي ببرج مراقبة على شكل أرزة تعلو المبنى فوق ترّاس مكشوف وقرميد. ولم تفتقر مربعاتها ومستطيلاتها وخصوصاً دوائرها الرمزيّة من مراعاة مقتضيات البيئة تزويداً لرفاهيّة المقام الرئاسي ومن يرتادون منتداه.

في أرجاء الصّرح الرئاسي المنيف ذاك خصص جناح للحوارات السياسية الخاصة والبنّاءة وكذلك السريّة منها والمتسمة بالعمق والجديًة.

الحجر، في تشييد العمارات المؤسساتية قبولٌ فلسفيٌّ بأنّ العقل في الهيكليّة الخارجيّة يتناغم وقلب المواطنة. ومشروع المهندسة سعد الدين نابعٌ من إيمان بالوطن أو الدولة من حيث انّها الجسم المجتمعي المفوّض إليه رعاية الناس وظبط شؤونهم. يفترض هذا اقتناعاً روحيّاً بأن لدى الإنسان تهذيباً ورقيّاً وحماية وتنميةً. ليس الحجر هو المنشود أولا، وإنّما هو احتضانٌ مادّي لأمور دنيانا. إنّه إطارٌ ضروري لإنتظامٍ روحي إستشففته لدى مهندستنا الطليعيّة الرائدة للتعبير عن حقوقٍ وواجباتٍ وضعيّةٍ بل عن تطلّع إلى شاهقات القيم والقِمم في وطن الأرز.

وبعد،

لا يفضّلُ الإنسان إنساناً بغيرِ

الفضلِ مهما اعتدَّ مهما طبَّلا



د. جهاد نعمان

أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه