توقف «القمر الأرضي» عن دورانه في الأفلاك ورمق الأرض بنظرة حالمة وأنشأ يخاطب سكانها قائلاً:
دعوني أعيش في عالم الأساطير، دعوني.. فأنا أهيم على هدهدة الأحلام وانسحاب الرؤى على أذيال الخيال ووميض السراب في خاطر الغيب.
خذوا الحقيقة، وتشبّثوا بوهنها وتفحّصوا دقائقها، وطهّروها مما علقته من الوهم المزعوم.
خذوها حقيقة مجرّدة عارية كأفكاركم الملتصقة بالتراب.
خذوها شجرة نفضت جذورها حلّة الأرض، وتعرَّت أغصانها من خضرة الأمل، فانتصبت كاليائس في وجه القدر.
خذوا علمكم والشك الذي به تعتصمون.
خذوا تنقيبكم الواهي الذي يلتقط التفاصيل من هنا وهناك ليملأ بها الصحائف كما يلتقط المسكين فتات الخبز المتساقط عن موائد الأغنياء.
خذوا الحقائق التي نصبتموها أصناماً جامدة وأوثاناً متحجّرة، ودعوني أتمتم أغنية الخيال الذي يقرع باب المستحيل.
دعوني ألّف في ضباب الوهم الحاضر والمستقبل، وأنفذ منه إلى لا نهاية العقل المجنّح المتمنطق بالخيال.
هذا هو العقل الذي في فلكه أدور. ابتدع به العوالم وأغزو به الأفلاك والنيازك والأبراج المسحورة.
أنسج للحقيقة من ضيائه ثوباً شفّافاً كغيوم الصيف، وأزنّر الواقع بقوس قزح وأبدّد الشكوك بشمس العيان، وأحمل الأرض إلى كواكب السموات السبع فأطوف في عوالم الأجرام من المريخ إلى عطارد ومن المشتري إلى الزهرة...
فأنسى الزمن والتاريخ وأخرج من عالم الهنيهات إلى عالم لا قبل فيه ولا بعد بل جديد يولد ولا يموت.
(أحلام شاعر مأخوذ) تسرّون إلى أنفسكم. وألفاظ برّاقة ترصف كما ترصف العواطف في أيامنا الفريسية. هذا ما سترددون ولا حرج عليكم فيه. أما أنا فأقول لكم من عاش في الحقيقة ولم يتخطّاها ظلّ يدبُّ على الأرض دبيب النمل.
ومن جعل الحقيقة نقطة انطلاق إلى عالم الأحلام والمعجزات فقد تحدّى الضعف البشري وخلق التاريخ، لأن خيال اليوم ينقلب غدا حقيقة ملموسة تنعمون بطيب ثمارها.
يقولون إن النمل إذا استوت له أجنحة ليطير فذلك نذير له بالموت.
وأنتم ما لم تحملكم أجنحة ذواتكم إلى الفضاء الأرحب فلا حياة لكم لأن موتكم آنذاك هو موت التراب فيكم، ويقظة الروح السجين.
كنتم تهزأون بأجدادكم يوم غنّوا بساط الريح وحاكوا الأساطير فقهقهتم قائلين: خرافة الجهل والسذاجة، ومطية الجن والعفاريت.
أما اليوم فتركبون الطائرات وتجوبون الأفلاك الرحاب ولا تتعجبون، أفتقولون بعد عن بساط الريح: حديث خرافة؟
كنتم تسخرون بشاعر مسكين يعيش في الوهم ويهيم كالمخبول في سماء تخيّلاته فقلتم فيه: شاعر مجنون يعيش في المريخ.
أما اليوم فإنكم تعاينون الصواريخ تشق قلب السماء في طريقها إلى الكواكب وترون إلى قمر أرضي يطوف بين أقمار السموات يوشوش كوكباً ويغازل نيزكا ويتحدّى طبيعة متمرّدة.
فيا أبناء التراب!
لا تهتموا لمقاييسكم الواهية ولأرضكم التي قيّدت خيالكم وعصبت عقولكم بالتراب.
افتحوا قلوبكم لعوالم الغيب وأسموا على أجنحة الخيال ولتكن تنقيباتكم خادمة لقبس خواطركم التائهة في عالم الضباب الشفّاف.
كونوا كالنور إذا اصطدم بحاجز كثيف لا يرتدّ عنه، بل يفتش عن منفذ يتسرّب منه إلى الخفايا، فتنقلب الظلمة الدامسة ضياء وهاجاً وتتكشف الخفيات مجلوة كنهار الفكر.
آمنت بالخيال أسيراً للواقع والحقيقة.