بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 تشرين الثاني 2021 12:00ص د. محمود عمر خيتي كاتب الثلاثية الشامية لـ«اللـواء»: عنايتي بالرواية إحساس بالمسؤولية تجاه تاريخنا بكل تفاصيله

حجم الخط
«الثلاثية الشامية» ثلاث روايات تدور أحداثها ما بين عامي 1854 - 1959م، مع الإشارة إلى أحداث تعود إلى بدايات القرن التاسع عشر كان لها تأثير في مراحل تاريخية لاحقة. ومن الطبيعي أن يقوم الكاتب باصطفاء بؤر تاريخية معينة تجري فيها معظم الحكاية وتتطوّر فيها الشخصيات وتتفاعل، ولهذا اختار الكاتب عام 1854 نقطة بداية، وهي سنة عودة الطبيب الجراح الشاب حسام سامي الشهيد الحسني (وهو الشخصية الرئيسة الأولى) بُعيد تخرّجه في الآستانة التي كانت عاصمة الشرق عصرئذ إلى مدينته دمشق عبر بيروت في سفينة لتاجر بيروتي، ومن دمشق اتجه إلى القدس التي كانت تعاني الجوع بسبب القحط وندرة القمح الذي هو قوت الناس الفقراء، ومن هنا وجد حسام نفسه مندفعاً إلى إنقاذ العامة بتأمين القمح لهم ومعالجة المرضى بالمجان، وفي الوقت نفسه كان يحمل قضية شخصية وهي البحث عن قاتل والدته وشقيقته، ويحمل في قلبه حبًّا لمارية وهي فتاة مقدسية مسيحية كان يسكن في بيت والدتها.

وهكذا تسير رواية «حبَّتان من القمح» الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون (وهي الرواية الأولى من الثلاثية الشامية وكما هي الحال في الروايتين الثانية والثالثة) في خطين متوازيين من الصراع: الخط العام وهو تأمين القمح وعلاج المرضى وإنقاذ الأطفال الذين يتضورون جوعاً ومرضاً، والخط الخاص المنقسم بين البحث عن القاتل والتعبير عن حبّه للفتاة التي أحبها. وفي سبيل الصراعين تدور أحداث وتبرز شخصية الطبيب الإنسان، كما تبرز شرائح المجتمع الفقير الذي لا نكاد نعثر في كتب التاريخ على تفاصيل وافية عنه، إلا في حدود أن تلك السنة كانت سنة قحط وجوع وموت كثير. إنه تاريخ مفقود لا نعرف منه إلا ما يخص الكبار والأثرياء وذوي النفوذ... وتزعم هذه الرواية (بشهادة النقّاد والقرّاء) أنها نجحت في كتابة جزء من تاريخ مجهول بأسلوب روائي محكم. ومع د. محمود عمر خيتي أجرينا هذا اللقاء..

{ وضوح الذاكرة التاريخية في روايات هي من المشهد الأدبي القوية أدبيّاً، هل يمكن القول إنك بذلت جهداً في ذلك؟

- ما أصعب كتابة رواية تاريخية تحترم الحقيقة، ذلك أن الخطاب السردي بطبيعته قائم على المتخيّل، ومن هنا وجب على الكاتب أن يسير بأمانة على الخط التاريخي الصحيح وأن يتيح لخياله الإبداعي أن يعمل أيضاً، والمزاوجة بين الأمرين كان غاية في المشقة لمؤلف الثلاثية الشامية الذي نقّب طويلًا وعلى مدى عقدين من الزمان في كتب التاريخ والسير والجغرافيا البشرية والمجتمعات القديمة والعادات والتقاليد وحتى في تاريخ الطب ليقدّم ثلاث روايات قد ترقى (بشهادة من قرأوها) إلى أن تكون وثيقة للمراحل التاريخية التي تناولتها.

{ أين الرواية التاريخية المعاصرة حاليّا؟ وهل هي في مأمن من الدسائس السياسية؟

- لم تكن عنايتي بالرواية التاريخية إلا إحساساً بالمسؤولية تجاه تاريخنا بكل تفاصيله أولاً، وللإحباط الذي ينتابني بصفتي قارئاً قبل كل شيء من التعدي على القواعد الكثيرة للفن السردي عامة والرواية خاصة وللرواية التاريخية بشكل أخص. هناك موجة عارمة وسيل من المطبوعات التي تسمّى روايات تفتقر إلى ألفبائية الكتابة، وبعضها يستغل عاطفة القارئ باختيار عناوين لافتة (كلمات دينية، أسماء شخصيات، كلمات غير مألوفة، كلمات تدل على الحب أو الوطن أو القضية أو الرعب...) ولا أقول إن هذه هي المشكلة، بل المشكلة في افتقار النص نفسه إلى ما يسوغ العنوان. لا شك أن الرواية كما القصة كما القصيدة تسقط سقوطًا مزرياً عندما تكون جزءاً من الأحداث الدائرة والسياسات المتداولة وتتحوّل إلى مادة إعلامية بإسم الأدب.

وهذا كله لا ينسينا أبداً التنويه بشأن الأعمال القليلة الجيدة التي ربما تغيب عن الأضواء في زحمة العناوين، وهنا نجد أنفسنا مضطرين إلى الحديث عن دور الصحافة الأدبية، ومسؤولية النقد الأدبي البعيد عن المصالح، وهذان (الصحافة الأدبية الكفوءة والنقد الحصيف) باتا يعانيان النزف الحاد أيضاً.

{ «حبّتان من القمح» وتأثيرها على الحاضر، هل حاولت إظهار الموقف الأيديولوجي للمجتمع العربي بشكل عام؟ وهل تحاكي عصرنا الذي فَقدَ قيمة تاريخنا؟

- النص يتحدث عن نفسه ولو بعد حين. لا أدّعي الكمال في مقاربة مرحلة تاريخية بكل تفاصيلها، ولكنها تتضمن بلا شك ما يوحي بالرؤى الفكرية السائدة في تلك المرحلة، وأعطي لذلك بعض الأمثلة: في رواية «حبتان من القمح» يحاول الدكتور حسام تجاوز العقبات الإدارية والنظم البطيئة لإنقاذ المدينة وتأمين احتياجاتها، وفي ذلك إشارة غير مباشرة إلى الذهنية السائدة في مجتمع يغلب عليه التراخي والاستسلام لمصائبه. وفي رواية «الشفق الأبيض» مواقف عدّة، منها موقف الدكتور حسام في مجادلته ورفضه للأفكار الاستعمارية القديمة ودفاعه عن قيم الشرق والمواطنة خلال حواره مع نائب القنصل البريطاني، كما يتجلّى في دفاعه المستميت عن حقوق الفقراء والمستضعفين، والأمثلة الضمنية كثيرة. أما رواية «اسمي هاجر» فهي رواية واضحة الرسالة في مناهضة الاستعمارين الفرنسي والبريطاني في بلاد الشام بعقلية هاجر المرأة المثقفة الواعية التي تجيد الدفاع عن قضايا الوطن بأساليب فكرية مسالمة، وتسير بخط مواز لخط الرجال المجاهدين الذين يدخلون أحيانًا في مواجهات عسكرية مع المحتل.

إن شخصية المحامية الأديبة كاتبة المقالات والمحاورة بحكمة وثبات هي الشخصية المثلى للمرأة الشامية المثقفة التي شاركت الرجال في هموم الوطن والدفاع عنه بالكلمة والمنطق من غير تنازل عن خصوصيتها الأنثوية واحترام تقاليد معتقدها، وهذه الشخصية (مع الأسف) حاولت بعض الأعمال السردية والدرامية تشويهها والحط منها.

{ الماضي والمستقبل هما وجهان لا ينفصلان، هل هما حبتان من القمح لحاضر فَقدَ قيمة كل شيء؟

- هذا ما أتركه للقارئ الكريم الذي يقرأ الروايات عادةً ليعرف ويتخيّل ويحكم وليس ليتسلّى فقط، ومن بعده الناقد الذي له كل الحق في تبيان كل خفي وتوضيح ما لا ينبغي للكاتب أن يضيفه بعد أن خرج النص من بين يديه. نصوص الروايات الثلاث في الثلاثية الشامية هي الآن في ميزان قرّائها ونقّادها وعيونهم المبصرة إلى ما بين السطور وما بعد السطور.