بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 شباط 2021 12:03ص دق الجدران

حجم الخط
انتظرت ساعة ونصف، أمام باب أحد فروع البنك في شارع المقدسي صباح اليوم، حتى وصلت إلى شباك الصندوق، ثم خرجت بعد ذلك، متلمّسا نفسي، منسلا بها إلى الشارع، بعد أن تكاثرت الزبائن، تريد إنجاز معاملاتها المالية.
وجدت نفسي فجأة في شارع الحمرا. وإذا أنا أمام ثلاث آليات لنقل الجند. وبالقرب مني، ثلاثة بنوك، واحد منها، هو أحد الفروع، للبنك الذي كنت فيه قبل قليل.
سمعت، وأنا أرتشف القهوة، تحت الدرج المقابل، أهدّئ من أعصابي، أن مظاهرة إحتجاج قادمة من بعيد. إنتبهت إليها.
تجمهر المتظاهرون أمام أبواب البنك، يرفعون اللافتات التي تطالب بأموال المودعين.
كانوا قرابة الخمسين شخصا.. بادروا فورا دق الأبواب والجدران.
كان الذين يدقون الجدران، أكثر عددا، وأشدّ قوة، وأعتى غضبا، وأعلى صوتا.
كانوا يضربون جدران البنك بكل قوة. كان جوعهم، يعض سواعدهم، فتتحرك مثل الذراع المعدنية، تريد إزالة الجدار الذي يفصل بينهم وبين أموالهم من الأساس.
هذا المشد الصغير، لجمهرة من المودعين، يدقون جدران البنوك، قبل الساعة الحادية عشرة صباحا، لم يكن واحدا، كان مشهد شعب خسر ودائعه، منذ أكثر من عام ونصف. كان مشهد شعب يعضه الجوع والغضب، منذ أكثر من عام ونصف.
تذكّرت مرة، منذ عشرين عاما وأكثر، كيف هاجم زميلي، موظف البنك، لأنه أنقص راتبه، مقدار ألفي ليرة، متجاوزا الإتفاق المعقود معه، بألف ليرة تقريبا.
يومها، تجمهر أساتذة الجامعة وموظفوها، على باب المدير، واندفعوا نحوه، وأعلنوا موقفا واحدا: لا يقبلون بسرقة ألف ليرة من رواتبهم. وأتوا برئيس مخفر التل بطرابلس، فألزم مدير البنك، أن يمضي تنفيذ العقد، ولو بألف ليرة.
نحن اليوم أمام صورة جديدة من معاملة البنوك، ومن معاملة أصحاب البنوك، ومن المسؤولين المشاركين والمضاربين لأصحاب البنوك.
يمتنع البنك عن سداد كامل الراتب، يدفعه له على أربعة أقساط، يقبض الدفعة الأخيرة منه، قبل نهاية الشهر.
تدنّى الراتب كثيرا، حتى كاد أن يلامس الـ 15 بالمئة من حاجاته الشهرية. خسر راتبه زهاء 85%، من قيمته. وألزمه البنك بزيارته، أربع مرات في الشهر. ألزمه بزيارة العلبة على الرصيف العام، أربع مرات في الشهر. وكثيرا ما يجدها فارغة، فيخيب فأله، وينتظر صباح اليوم التالي بفارغ الصبر.
كوكبة من المودعين، من صغار المودعين، هاجموا البنك هذا الصباح.
يسأل المودعون عن حاجاتهم اليومية: أقساط مالية، على جميع الجبهات، تحاصره من كل الجهات، إبتداء من عامل النظافة في البناية، حتى القسط المدرسي والجامعي والإستشفائي.
«وتعجبين من سقمي/ صحتي هي العجب».
ليس كثيرا على الشعب الوادع والمودع، أن يتحوّل إلى نمر، يستشرس في الدفاع عن قوت صغاره، أن يتحوّل إلى لبوة تستشرس في الدفاع عن قوت صغارها، أن يتحوّل إلى طير جارح، إلى حيّة، أفعى، تحمي وكر صغارها.
رأيتهم بأم عيني، يدقون الجدران، منذ عامين، ولا شيء تغيّر حتى الآن. لم تتحرك الدولة لحماية شعبها.. لم تتحرك أجهزة الدولة لإنقاذ أبنائها.. كانت تتحرك لحفظ الأمن.. لحفظ الهدوء.. لحفظ الإنتظام.
لكن اليوم: السؤال عن السارق، عن حماية السارق. لكن اليوم: السؤال عن الشعب الجائع.. السؤال عن الأمانة.. عن إساءة الإئتمان.. عن سرقات المؤتمنين: «إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان».
لم تعد الدولة، لا على مستوى السماء، ولا على مستوى الأرض، ولا على مستوى الجبال، ولا على مستوى الإنسان.
فكيف لا يخرج الناس؟ فكيف لا يخرج الشعب؟! فكيف لا يخرج المدعون؟ فكيف لا يخرج العاملون والموظفون، وأصحاب الحقوق، وعيالهم وأطفالهم، وبناتهم، والثكالى والأيامى، والمقعدات.. ومعهم صغارهم وشيوخهم وعجائزهم؟!..
يهزّون القضبان، ويخلعون الأبواب، ويدقون الجدران!


أستاذ في الجامعة اللبنانية