إن موضوع التكامل بين الأقطار العربية يجسّد طموحات الغيارى على مستقبل الوطن العربي الذي يريدونه أكثر تماسكاً ومنعة وقوة وأوفر إيمانا وأمتن بنيانا من حاضر متمزق وإيمان متضعضع وبنيان لا يريدونه متداعياً. وقد كانت قناعتنا بأن ساحة الفكر العربي في أمسّ الحاجة إلى أبحاث تجسّد آليات التكامل وتضع الخطط العلمية التي ترشدنا إلى معالم الإصلاح والتغيير ومسالكه. وستساهم الأبحاث التي ستقدّم والتعقيبات والمناقشات في تحفيز الوعي وإيجاد مناخ من الاهتمام المرجو لدى الرأي العام العربي ولدى المسؤولين وصانعي القرار.
لقد تحولت المنطقة العربية - من الخليج إلى المحيط - إلى موطن حياة لأمة عربية. وإذا كانت بعض أوردة وأنسجة هذه الأمة قد تقطعت إلا أنها سرعان ما يعود الالتحام إليها يرشده اتجاه الأنسجة وصفات خلاياها. ولهذا نجد المتربصين بهذه الأمة وخاصة رأس حربتهم إسرائيل الصهيونية تجهد بكل ما تملكه من خدع وما تلجأ إليه من فنون وأساليب إرهابية وما تحوكه من مؤامرات ومخططات عدوانية لتفتيت الوطن العربي. وفي مواجهة هذا كله كان لا بد من النضال لتجاوز أوضاع الاهتراء الحاضرة والعمل في اتجاه التكامل كمطلب أولي لمواجهة التحديات والتغلب عليها. وهذا يفرض تبنّي الاستراتيجيات والسياسات الداعمة لهذه المواجهة والكفيلة بصيانة الداخل العربي وتنامي قدراته وتوليه لتركيز وجوده في العالم منطلقاً لمشاركته مع القوى المتقدمة الفاعلة في رسم الخريطة التي تُعد للمستقبل على مشارف الألف الثالث. إننا أحوج ما تكون في هذه المرحلة الدقيقة إلى بلورة رؤيا استراتيجية عربية نتفاعل من خلالها مع التطلعات التي يفرضها منطق الزمن الآتي. إن مسؤولية القادة العرب وأهل الفكر والفعاليات الأهلية كافة تستوجب التعاون والتنسيق في مجالات التكامل الشامل وهو الرد التاريخي أيضا بوجه القوى المعادية والمعتدية في آن.
من هنا فإن اللحظة التاريخية تنحصر في عملية التكامل لإخراج هذه الأمة، وباقتدار، من سجن المعاناة الذي هي فيه والانتقال من حالة التهميش وتجاوز البكائيات والإحباط الذي يعمق حالة اليأس إلى عالم التحدي لما يحاك لنا وما يجابهنا. ويغدو التكامل الذي هو طريق الوحدة المنشودة أكثر من ضروري في أيام النكبات والتراجعات والتبعية حيث يقف الإنسان العربي بائسا أمام القوى الكبرى المتسلطة هارباً بصمت من الخطاب السياسي العربي. فإذا لم يعِ العرب ويخططوا لمستقبلهم فإن قوى أجنبية واقفة لهم بالمرصاد تعي وتتولى التخطيط والتنفيذ لهذا المستقبل.
لم يعد ترتيب البيت العربي وجهة نظر فقط أو ضرباً من المثالية المجردة السارحة في أجواء الخيال ولم يكن في يوم من الأيام كذلك. فالظروف الحتمية لاستمرارنا وصيانة كياننا ولاسترداد أي حق من حقوقنا تقتضي منا حداً أدنى من الترتيب لبيتنا باتجاه التنسيق والتكامل. هذا التكامل أو الاتجاه التوحيدي هو الشرط الأساس لتحقيق الاستقلال السياسي والتنمية والدخول في الحداثة على أبواب القرن الواحد والعشرين. وبقدر ما نوفر العناصر الإيجابية لربط سياساتنا التكتيكية بهذا المشروع التكاملي التاريخي لأمتنا ونهوضها تحافظ على وجودنا وتقدمنا وقوتنا ومنعتنا وبالتالي توفير الحياة الراقية لكل منا.
إننا بأمسّ الحاجة إلى نضال المثقف التاريخي الذي يرتفع بالممارسة إلى مستوى الأحداث التاريخية الكبرى. ولقد آن أوان الالتفات للمستقبل وآفاقه. إذن لا على لنا عن عمل قومي نهضوي فاعل يتطلب تحولات أساسية في مجتمعنا العربي فكراً وسلوكا وتخطيطاً وبناة وفق استراتيجية واضحة ومتطورة تترجم طموحاتنا ونؤدي بالتالي إلى التكامل المنشود على أن نكون حذرين جدا لما يحوكه لنا الغرب والصهيونية من مؤامرات وخدع لعرقلة ما تصبو إليه أمتنا من تكامل ومنعة وقوة تستطيع عندها أن تقف في وجه القوى المعادية، ذلك أن المنطقة العربية تعتبر عندها ذات أهمية استراتيجية بالغة لموقعها الجغرافي الفريد وثرواتها الكبرى. لذلك دأبت هذه القوى المعادية على تفتيت المنطقة ومنع تحقيق تكاملها السياسي والاقتصادي والثقافي الذي لو أتيح له أن يتحقق لقاد في النهاية إلى قيام منطقة عربية كبرى موحدة تؤثر تأثيرا جذريا وفعّالاً على توازن القوى العالمية، كما تتحول إلى قوة مناهضة وتكون سببا قويا لقلب التوازن العالمي الراهن لمصلحة شعوب العالم الثالث، ذلك أن المنطقة العربية الموحدة أو المتكاملة بإمكانياتها الهائلة ومقوماتها وبمخزونها النفطي الكبير وخبرتها التاريخية وتراثها الحضاري العريق تأتي في طليعة القوى الكبرى المؤهلة لقيادة العالم الثالث في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ليس هذا فحسب بل والقادرة على مواجهة تحديات القوى الدولية الكبرى. ولذلك كان التنافس على أشدّه للسيطرة على هذه المنطقة التي تعتبر همزة وصل قوية وفعّالة بين أوروبا والدول الأفرو - آسيوية، مما يلقي ضوءاً أيضا على دورها المميّز. وأخيرا علينا أن نعلم أننا نقف الآن أمام مرحلة انتقالية، وأن عهداً جديداً لا بد من أنه سيظهر قريباً إذ لن تستمر المآسي والأوضاع على ما هي عليه، وأمامنا إمكانيات التكامل الهائلة التي علينا أن نوظفها ونحسن الاستفادة منها لخيرنا وخير الإنسانية جمعاء.