بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 شباط 2020 12:00ص دور بيروت المحوري في الحركة العربية لمواجهة سياسة التتريك

حجم الخط
تولّى السلطان عبد الحميد الثاني الحكم في 31 آب من العام 1867 في أصعب مرحلة كانت تمرُّ بها الدولة العثمانية، وكان يطلق عليها إسم رجل أوروبا المريض، فقد سلخ عنها أجزاء كبيرة من الأراضي العربية، كما أنها كانت تقع تحت مديونية كبيرة، بالإضافة الى المطامع الغربية.

جرت محاولات عدة من قبل العثمانيين لإصلاح نظام الحكم في الدولة العثمانية عن طريق وضع دستور للدولة وذلك في العام 1876 والذي عرف بإسم «دستور مدحت باشا»، لكن هزيمة العثمانيين في حربهم ضد الروس في العام 1877 وفقدانهم مناطق شاسعة في آسيا الصغرى والبلقان ووقوعهم في عجز مالي، أدّى الى تعطيل العمل بالدستور وإقامة نظام الحكم المطلق وذلك في العام 1878.

عرفت تلك الفترة ظهور جمعية الإتحاد والترقي، حيث تولّى عديد من أعضاء الجمعية مراكز مهمة في الجيش العثماني، كما إنتسب عدد من العرب للجمعية أيضاً بغية التخلّص من الحكم الفردي المطلق، وكان العام 1908 مفصلياً في تاريخ الدولة العثمانية، حيث قاد زعماء الجمعية إنقلاباً أجبروا السلطان عبد الحميد على إعلان إعادة العمل بالدستور وإجراء الإنتخابات النيابية (مجلس المبعوثان).

جرت الإنتخابات وفاز عن ولاية بيروت كل من رضا الصلح وسليمان البستاني، وقد قابل أهالي بيروت نتائج الإنتخابات بالهتافات فرحين، وضم مجلس المبعوثان المنتخب 275 مبعوثاً منعم 152 تركياً و50 عربياً والباقي يمثل العناصر الأخرى التي يتشكّل منها النسيج العثماني من البان ويونان وأرمن ويهود وبلغار، لكن التمثيل العربي في مجلس المبعوثان كان مجحفاً، خاصة أن العرب كانوا يمثلون حوالي نصف عدد سكان الدولة العثمانية.

قامت تظاهرات في بيروت تعالت فيها الصيحات المنادية بالإخاء والمساواة، وخرج الشبان المسلمين من حي السراي في قافلة عربات بإتجاه محلة الجميزة تعبيراً عن الوحدة بينهم وبين أهالي المحلة المسيحيين، لكن إعادة العمل بالدستور وبدل أن يشكّل دعامة لإنقاذ الدولة العثمانية، إذ به يساهم في تفكيك الدولة، خاصة بعد أن أيقظ الروح القومية نتيجة لسياسة الإتحاديين. وكان أن تأسست جمعية الإخاء العربي العثماني في إسطنبول، وضمّت العديد من رجالات العرب ومنهم عبد الغني العريسي من بيروت، وكان برنامج الجمعية ينص على معاونة جمعية الإتحاد والترقي في تطبيق الدستور مع الحفاظ على حقوق العرب ضمن الرابطة العثمانية، لكن الإتحاديين عمدوا الى حل جمعية الإخاء العربي العثماني بحجة أن أعضاء الجمعية كان لهم مساهمة في الثورة المضادة التي قامت بوجه الإتحاديين، وقام الإتحاديون أيضاً بإعتماد سياسة مناهضة للعرب والتي عرفت بسياسة التتريك، الأمر الذي أدّى الى قيام حركات سياسية عربية منها الجمعية القحطانية والمنتدى الأدبي، كما تم تأسيس جمعية «العربية الفتاة» وذلك في العام 1911 وكانت أهم الجمعيات السرية في باريس، كان شعارها عند تأسيسها: العمل للنهوض بالأمة العربية داخل إطار السلطنة العثمانية.

قامت جمعية «العربية الفتاة» ونتيجة اليئس من سياسة الإتحاديين بالعمل على إستقلال العرب وإنفصالهم عن السلطنة العثمانية، وتحوّل عبد الغني العريس الى الزعيم الفكري للحركة العربيّة، وتحوّلت صحيفته البيروتية «المفيد» الى أكثر الصحف إنتشاراً وهي التي عملت على إظهار الإتجاه القومي العربي في مواجهة سياسة الإتحاديين، وقد تعرّضت تلك الصحيفة نتيجة ذلك الى الملاحقة والتعطيل.

فشل الإتحاديون في توحيد شعوب الدولة العثمانية، بالمقابل إنتشرت الروح القومية لدى العرب والأرمن والأكراد وغيرهم من أبناء القوميات الأخرى الذي عملوا على الإستقلال عن الدولة العثمانية بمساندة الدول الأوروبية الكبرى.

وقامت في بيروت جمعية الإصلاح العام، وكانت تضم 86 عضواً، في التوطئة التي وضعت لبرنامج الجمعية، جاء أن «الحكومة العثمانية حكومة دستورية نيابية». وجاء في المادة الأولى، أن المسائل الخارجية والعسكرية والجمارك والبريد والتلغراف وسنّ القوانين، منوط تقريره وإجراؤه بالحكومة المركزية. أما الشؤون الداخلية الخاصة بولاية بيروت، فمنوط تقريرها بمجلس الولاية العمومي. وحددت المادة الثانية، صفة الوالي وحقوقه ووظائفه. كما حددت المواد الثالثة والرابعة والخامسة حقوق ووظائف وقرارات المجلس العمومي الذي يؤلف من ثلاثين عضواً، نصفهم من المسلمين، والنصف الآخر من غير المسلمين، ولمدة أربع سنوات. أما المادة السادسة، فهي عن كيفية تعيين الوالي والموظفين. والمادة السابعة، عن تعيين الحكومة المركزية مستشارين من الأجانب لبعض الدوائر في مركز الولاية، أي مدينة بيروت. وتحدد المواد من الثامنة إلى الثالثة عشرة واردات الولاية وميزانيتها وأملاكها والأوقاف والبلديات وتأليف مجلس المستشارين. وأشارت المادة الرابعة عشرة إلى أن اللغة العربية تعتبر اللغة الرسمية في جميع المعاملات داخل ولاية بيروت. وتعتبر أيضاً لغة رسمية كاللغة التركية في مجلسي النواب والأعيان. أما المادة الخامسة عشرة والأخيرة، فتشير إلى جعل الخدمة العسكرية لمدة سنتين فقط، وتقضى أيام السلم في ولاية بيروت.

عيّن سامي بك والياً على بيروت، في يوم الخميس 13 شباط 1913م، وأخذ يستميل بعض البيروتيين، بإسناد الوظائف إليهم، كسباً للوقت في اتباع سياسة المماطلة تجاه الإصلاحات التي تطالب بها جمعية الإصلاح العام. فأدرك وجهاء بيروت خطورة ما يجري، وبدأت الاستقالات الجماعية من الوظائف العامة فاستقال أربعة أعضاء من المجلس البلدي ومجلس الإدارة في بيروت.

كانت ردّة فعل الحكومة الإتحادية، أنها اصدرت قراراً يقضي باعتبار «جمعية الإصلاح العام في بيروت» غير قانونية، فحضر رجال الشرطة في يوم الثلاثاء 8 نيسان 1913م إلى نادي الجمعية في باب إدريس، حينما كانت اللجنة التنفيذية مجتمعة فيه، وبلّغوا أعضاءها قرار الحكومة بحلِّ الجمعية، ومن ثم إقفال ناديها. وقد أحدث هذا الإجراء موجة من السخط، فصدرت صحف بيروت في اليوم التالي وهي لا تحمل إلا قرار الإلغاء على الصفحات الأولى محاطاً بإطار أسود، بينما تركت الصفحات الأخرى بيضاء.

وبعد ثلاثة أيام أقفلت المخازن التجارية في بيروت احتجاجاً على هذا القرار، وحسب جريدة «المقطم» المصرية كان المار في شوارع بيروت لا يرى إلا بعض الحوانيت الصغيرة فاتحة أبوابها، وأما المحلات التجارية الكبرى فكانت كلها مغلقة.

لم تقتصر غضبة الاحتجاج البيروتية على الرد السلبي إنما تخطّته إلى مطالبة والي بيروت بكر سامي بك، حسب عريضة وقّعها 1300 من أعيان بيروت، بالرجوع عن قرار اعتبار الجمعية غير قانونية. وعلى الأثر أرسل الصدر الأعظم سعيد باشا، رسالة يقول فيها: «إذا أراد أهالي بيروت أن يطالبوا بالإصلاح فليس لهم إلا أن يتصلوا بمجلس المبعوثان العثماني بواسطة نوابهم، فمجلس المبعوثان هو الهيئة الصالحة التي لها حق سن القوانين».

إنتهجت السلطة الإتحادية سياسة العنف وتكميم الأفواه وكبت الحريات واعتقال الزعماء، وأدّت هذه السياسة إلى مزيد من الاستجابة الوطنية ليس في مدينة بيروت فقط وإنما تخطّتها إلى ولايات الشام (بيروت ودمشق وحلب)، ذلك اضطرت السلطة الإتحادية إلى اللجوء إلى حل وسط، حينما أطلقت سراح الزعماء المعتقلين، وأعلنت أن الإصلاحات بصورتها المطلوبة سوف تتم.

كانت بيروت في طليعة المدن العربية التي واجهت سياسة الإتحاديين، بل أكثر من ذلك كانت المحرك الأساسي لحركة القومية العربية في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها.


ماجستير في التاريخ