بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 حزيران 2022 12:00ص رحيل الشاعر حسن عبدالله راعي الغياب

الشاعر الراحل حسن عبدالله الشاعر الراحل حسن عبدالله
حجم الخط
راعي الضباب، حسن عبدالله, كما عرّف عن نفسه، ذات شعر، ذات ديوان من الشعر، أمضى الثمانين، يرعى ضباب قريته/ الخيام، يقطف الغيمات في الجلول، يقفز مثل طفل معجز، يعتلي الصخور والقمم والتلال.
كان يصل إليها مع الفجر، مع الضحى، مع الغروب.. يبدّل حصانه الخشبي مثل المواقيت، مثل الفصول.. وبيده منجيرة الراعي، قصبته، عصا أو قضيب طويل، يرسل وراء الغيمات أنفاسه. فتعرفه من البعيد، من أقاصي الأقاصي، تستدعي سفينة من الريح، تستدعي هبوبها أن يسرعها في الوصول إلى يديه، يهرّها: فتنبسط نسيجا دافئا، لاهيا، فوق قبعته.. ينسج منها سماء للخيام في الخيام.
راعٍ صالح حقا، حسن عبدالله، الطفل المعجزة، الذي ما بدّل ثوب الطفولة، ولا مريولها. ما عرفته حقا، في زمان الكهولة وهو من عمري، فوق عمر الطفولة، كان أعظم مني طفولة، ولذلك كنت ألتصق به، حتى أضأل مثله، طفلا يعود من المدرسة.
طفولة حسن، شاعرا، كان شديد القناعة بها، أمضى عمره يغنيها، يرقصها، يلوّنها سجادة من نبات، في جميع دفاتر المدرسة، في جميع القصص المدرسي، على قمصان التلاميذ التي سال حبر قصصه عليها، حين كانت سماؤه تمطر، وهو في طريق الغدو أو الأوب، من المدرسة.
صديق الطفولة، حسن عبدالله، شاعر الطفولة حسن عبدالله، أديب الطفولة، قصّاصها.. كبر جميع أطفاله، ولم يكبر عنها، نسي نفسه بين حبرها وألوانها وأقلامها وأوراقها، يرسم طيارة ورقية لعصفورة الطقس، ثم إذ هو ينسى نفسه في خطوطها، ثم إذ هو ينسى نفسه بها.
ما إعتلق في قلبي شاعرا، مثل حسن عبدالله. كان ما يكتب، شعرا أو نثرا، أسميه: «معجز حسن». كان كلما رأيته، أضاءل، حتى أعود مثله طفلا، نلعب بقصص الأطفال، بأقلامهم، بأوراقهم، ثم نعود معا كما في «قصص العرب»، كما في «جمهرة قصص العرب»، نأخذها أيادي شتى، نتبادلها، ثم إذ هو ينشئها في يدي، يعيدها كرّة أخرى.. يخطفها، يختطف القلب بها، يجعل رواياتها تضاءل مثله، مثلنا: قصص عذوبة، لطفلين: هو وأنا. نجيد التقمص في برهة اللهو، في جادة اللهو، في «إلهاهنا».
حسن عبدالله، درّة البر، كما لم يره أحد. أعظم ما يوصف به: إنه درّ فريد لم يستقل عن عمره عن جيله.. عن جيل الطفولة.
كل من عرفه، رأى فيه درّا. كل ما نعرفه عن حسن، أنه درّ. جاء إذا، في موسم الدرّ، من يد غوّاص، تحرّاه في قيعان البحار. أما حسن، فكان يضحك في سرّه، يخبئ عنا سرّه، خالف صراط الدر، خرج إلينا من الترب، من التبر، من جهة البر، لا من جهة البحر الذي إعتدنا.. فكان إعجاز حسن.
أمسك الشاعر الطفل، منذ ذلك الحين، بعمره، ما ذاع عنه، أنه يجري به على سنن الناس، ما شأنه به، فهو «راعي الضباب».. يغيب في غيمة ترحل.. ثم لا يرى لنا.
اليوم هزأ حسن عبدالله به.. هزأ بعمره: براعي الضباب.. تحت قسوة الإصرار، تحوّل فجأة في غفلة الزمن، إلى راعي الغياب.
ها هو شاعرنا الطفل، شاعرنا المعجز، يرعانا.. يرعى جمعنا، يرعى الطفولة، يرعى أطفالنا، يرعى الناس، في الغدو وفي الإياب.
سوف تكرّ الأيام، مع حسن عبدالله، شاعرا، قاصّا، رساما، صديقا، عذبا كنبع، صديقا وفيّا، مثلما تعوّد أن نراه: معجز حسن.
أقول: سوف تمرُّ خيوط الشمس، أكثر من مرة على جبهة قرية وديعة إسمها الخيام، سوف تمرُّ الأنسام، تحصي هباتها، تعدّ هباتها.. تداول فصولها، تعيد هبوبها كل ثلج.. ثم تراها تذوب، فيولد منها طفل يؤوب إلينا من التلال البعيدة، نسأله: أين كنت؟ يجيب: كنت أرعى الغياب.
راعي الغياب إذا، حسن عبدالله.. هو اليوم بيننا، نفسه: حسن عبدالله. عصيّ على الذهاب.. عصيّ على الوداع. جاثم على كرسيه المعتاد بيننا، وما شأنه إن أصابنا الحزن، لأنه غاب عنا. يردّ علينا: أنا بينكم كل يوم.. كل ساعة.. كل برهة.. كل دمعة أزّفت مثل ساعة: تحوّلت.. أنتم.. نعم أنتم الغياب. وأنا جئتكم راعيا من مراعي الضباب، أرعى الغياب.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية