لا أظن أحدا من الرسامين في العالم، بلغ هدوء بيير سولاج في موته بـ«نيم» (الأربعاء 26/10/2022). الرجل الذي وُلد في روديز - جنوب فرنسا 24 ديسمبر 1919. فكان قد عاش سحابة 102 عام.
زوجته هي كوليت سولاج، وعمرها يناهز 101 عام.
بيير سولاج الرسام والنحات الذي صادق الأسود والأبيض، وظلّ طيلة حياته وفيّا لمبدأ بدأه في طفولته في سن مبكرة.
كان في العاشرة، حين شطب دفتره المدرسي بالأسود، فسألته أمه عن ذلك، فقال: إنه يصنع الثلج. ثم راح يفلسف رؤيته للخط الأسود، بأنه هو الذي يصنع الأبيض. إنها عبقرية طفولته في العاشرة، تجلّت فيه باكرا، فكانت قد طبعت مسيرته الفنية لقرن من الزمن.
كنت في ساحة «الكوميدي - Comedie» بمونبلييه عصرا، حين علمت أنني قبالة القاعة التي يكرّم فيها الراحل بيير سولاج، بعد أن كنت تابعت النشرات الثقافية المسائية على الشاشة الفرنسية التي نعته. كانت تتحدث عن رحيل قرن من الفن، تجسّد في المبدع الرسام بالأسود والأبيض: الرسام القدير بيير سولاج. خرّيج كلية الفنون في جامعة مونبلييه.
لم يتسنَّ لي الدخول إلى قاعة العرض، حيث كانت تعرض بعض أعماله إحتفاء به، لأنني وصلت متأخرا. وكانت القاعة على عظمتها، قد غصت بالقادمين للمشاركة حضوريا بالحفل، ذي الطابع التأبيني - التكريمي، لإبن مونبلييه العظيم. وهذا ما زادني شوقا للتعرّف على رسام، عاشق الأسود والأبيض، في عصر الألوان. وعاشق الكهوف ورسومها البدائية، في عصر الكومبيوتر والحداثة الرقمية.
وجدت حقا، في بيير سولاج، الفنان المختلف، والرجل المختلف، والمثقف المختلف، والمطمئن بكل تؤدة ورويّة، إلى نسج دوره الرائد الذي يغرف من كهف شوفيت في لاسكو ومن كهف بيش ميرل - Pech-Merle، بدلا من المدارس الفنية في العصرين: النهضة والحديث. دون أن ننسى مدرسة الرسم المعاصر.
قيل عن بيير سولاج، إنه ملك الأسود، إنه رسول الأسود، بل إنه «أعظم فنان على قيد الحياة»، كما قال فيه الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند العام 2014. بل إنه كما قال فيه الرئيس الفرنسي الحالي، مانويل ماكرون: «عرف كيف يعيد إختراع اللون الأسود عبر جعل النور ينبثق منه». وأضاف: «إن أعماله تشكّل إستعارات حيّة يستمدّ منها كل منا الأمل». إذ أن نتاجه كله عابر للزمن، هو الذي أعاد إبتكار الأسود بشكل مذهل.
عاش بيير سولاج في منزله الذي بناه على مرتفعات «سييت - Sète» العام 1960، بالقرب من المقبرة البحرية، حيث يرقد كل من: بول فاليري وجان فيلار. وقد إكتشفه الفنان فرنسيس بيكابيا، على الرغم من بقائه بعيدا عن المدارس، بحيث قال في أعماله، بيير إنكريف إنها «رسومات صبغية، تتميز بتنوّع لوني، يعكس كل الأنوار التي يتلقّاها».
اهتم الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون شخصيا لرحيل بيير سولاج. فكانت دعوة من قصر الإليزيه، لإقامة حفل تأبين يرأسه ماكرون نفسه، في ساحة متحف اللوفر، طيلة نهار الأربعاء، الذي كان يلي أربعاء رحيله (26/10/2022).
وقد كرّمته مدينة روديز، بجنوب فرنسا، مسقط رأسه، بأن جعلت له متحفا خاصا بأعماله، يرأسه ألفرد باكمان، صديقه الشخصي، الذي علّق على خبر رحيله: «إنه خبر محزن. لقد كنت أتحدث قبل قليل مع أرملته كوليت سولاج».
تخرّج بيير سولاج من كلية الفنون الجميلة في مونبلييه العام 1948. وقد نحا منذ ذلك الحين نحو التجريد الكامل في فنه. وكتب في ذلك العام:
«اللوحة هي مجموعة منظمة، وهي مجموعة من الأشكال التي تظهر عليها، وتنهار».
رسام لا كالآخرين: يشبه مالارميه التجريدي، الذي لا تقوم قصيدته على المعاني والأفكار، بل على حوار الشاعر مع الصمت. وهو الذي يقول (بيير سولاج): «يرشدني الما يحدث على اللوحة إلى ما أريد رسمه». رسام الأسود والضوء، له مزاج الخشب ورسمه مثل الأبجدية الصينية. يضع اللوحة على الأرض، ويمشي فوقها ليضع الجسر بينه وبينها. فهو الذي يعشق التواجد وسط الرسم، وحضوره هو المفتاح، وحركاته عادة ما تكون سطحية لصنع الجديد.
يكره بيير سولاج أن تكون لأعماله عناوين. يكره أن تتحدث أعمال عن التاريخ، على غير عادة الرسامين المعاصرين. يقول لا، لهما. لأنه يستبدل ذلك بالبعد. يقول بدلا عن ذلك: «نعم للبعد في اللوحة. لأن ما يفعله، هو الذي يعلمني ما يبحث عنه».
رسام إخترع (ضوء السواد - Noir-Lumière أو Outrenoir)، من كهوف ما قبل التاريخ طيلة قرن من الإبداع. عاش تداعيات الحرب العالمية الثانية. وأفلت من الخدمة العسكرية. وغطى نفسه وأعماله بالسواد. وظلّ طيلة حياته، محافظا على روحه الساخرة، على الرغم من أنه كان صاحب ريشة صارمة، منجذبة فقط للأسود وللأشكال الهندسية، من شجر وعمارات وحقول وصخور ونفائس وأواني. سبعون عاما في الفن، كان عنوان معرضه في اللوفر، الذي إفتتحه قبيل وفاته بعام تقريبا. وقد غطى مشواره الفني في الرسم والنحت بالكامل.
فلسفة سولاج لا توفر الرأي الديني. فهو على مبعدة شخصية - فنية من الدين، رغم ثقافته المسيحية الدقيقة والعميقة. وهو الذي يقول: «تنتهي الكلمات عندما يتم الإبلاغ عن رمزية التلقّي». وقد جعل من منزله، ورشة لتحقيق رغبته. معرّفا اللوحة عنده بأنها «رسم الرغبة في دواخلي». وحين سُئل عن الإحتفال بالمئوية، قال: «لا أستطيع أن أقول هذه السن لم يغيّر شيئا في دواخلي». وأضاف: «سبعة عقود بين الأسود والأبيض، والظلمة والنور، إنما هي لعبة الضوء في داخلي». تجريب لا يخطط له، وإنما ينبثق داخل اللوحة وهي ترسم، لأن للون الأسود أنسجة ليفية، يختزل الكون كله في جوهره. وكان قد قال: «لا أهتم بموتي، طالما لوحاتي حيّة».
الرسام الفرنسي الراحل بيير سولاج، عاد من حيث أتى. عاد إلى الظلام، يبدعه بالموت، مثلما أبدعه بالحياة، جرأة الأسود الذي ينير جنبات الحياة. فلولا الموت، ما ذاق الإنسان معرفة الحياة، لا طعما ولا رسما ولا لونا ولا ضوءا. رحيله إلى الموت، رحيل إلى الفن الذي بشّر به سحابة 102 من السنين، رسام الأسود والأبيض.
أستاذ في الجامعة اللبنانية