زياد الرحباني اليوم عام ٢٠٢٣ رَجُلٌ آخَر، وفنان آخَر، والمهم رحباني آخَر. يقال، والراوي الصادق يجزم أنه تبدّل وتغيّر واختبر بنفسه الوحدة القاسية، والعذاب كما لم يقاسِه إنسان. ما يقارب العشرين عاماً من المراجعة القاتلة، وتقليب الدفاتر الشخصية، والإجتماعية والصحية والفنية، وما تعلّمَهُ في زمن الصمت والابتعاد والعزلة أكبر بكثير مما تعلّمه في زمن الأضواء والمسرح والحفلات. ليس هيّناً على شخص بإمكانات زياد الرحباني، وطاقاته الفنية العميقة والمتفرعة غصوناً وظلالاً أن يجد نفسه عازفاً على البيانو في «نايت كلوب» صغير ومغمور في مدينة دُبَي. لا الذين رأوه هناك صدّقوا، ولا الذين رُويَت لهم الحكاية صدّقوا ولا الذين التقطوا له صوراً هناك صدّقوا. مَن ذا يصدّق أن زياد الرحباني العامل على نفسه استقلالاً معنوياً وشخصيّاً وفنياً إلى حدّ صناعة مستحيل فنّي جميل، «سيُعيدُه» الناس المحبّون يوماً إلى «أحضان معنوية» لأبٍ عبقري، وأمّ عبقرية، مُتعجّبين كيف تصل به المواصيل إلى هنا؟ أكثر..أكثر فقد قيل أن ثروة فيروز، والدة زياد، كبيرة من فنّ نظيف، أكثر سطوعاً من شمس الظهيرة، فهل امتنعَت الأم عن رَفد إبنها بما يمنع عنه عوَز العمل كعازف في «نايت كلوب». أُخرِجَ زياد من حالِه ورفضِه الإعانة ولوّ والِدِيّة، وألحقوه بأبيه وأمه علّهم يجدوا تفسيراً معقولاً أو مقبولاً لواقعه المُخلخَل الذي لا يرضى به «إبنٌ» لأي نكرة في الحياة الفنية، فكيف بابنٍ لعاصي وفيروز. وما وجد أحد الجواب.
فالجواب عند زياد الذي يحتجبُ، ويقال هذه المرة في منزله الوالدي في الرابية وقرّر أن يبدأ مرحلة العودة الطوعية إلى ذاته المُشَلّعة، عبر الصحة. صحة زياد كانت مضروبة بقنابل وشظايا الظروف والوقائع الفتاكة، وأراد أن يسترجعَها. هي نفسُها الصحّة التي هدَرَها أكلاً وشراباً وسهراً ومجوناً وعبثاً عاد يعاملها بالروية التي تقتضيها وقد رأى الموت في عينيه. جمهور زياد ينتظره، وزياد غائب. مراجعة المواقف تتطلّب ذلك. لا أحد يدري ماذا كتَبَ ولا ماذا لحّن ولا ماذا فكّر خلال المدّة. ربما لم يفعل شيئاً. كل ما أمسكه زياد بيديه خلال حياته فقَدَه تماماً كأنه لم يملكه يوماً. من المرأة والزوجة إلى إبن ليس من صُلْبه إلى الشخصية الفنية إلى الموسيقى إلى العائلة! ولعلّ الساعات التي أمضاها أمام كرسي شقيقه «هَلي» المُقعَد كانت تعويضاً له عن غيابه عنه، ذلك أنه في الوقت الفائت وهو بالعقود لم يجد زياد وقتاً ليُلقي عليه تحية. لا أعرف أصلاً ما إذا كان «هَلي» يفهم التحية أو يرُدّ عليها لأن إعاقته صعبة ومؤلمة وتُعتِمُ القلب، لكن زياد الراجع بعد «سفرٍ» معطوف على إقامة محلية - بلدية جهنمية طويلة، يشعر أن «هَلي» درسٌ قاسٍ ومرير وخطير في الحياة، وأن العائلة تبدأ به كنقصٍ دهري في بيتٍ بكمال فني. «هَلي» أوّلاً. فهل استطاع زياد تنقية صحته بشكل كافٍ ليعود طبيعياً وهو كان فوق الطبيعة لا تحت قوانينها؟ وهل الركون في البيت الوالدي، مع فيروز وريما، مؤثّر إيجابي في رحلة العودة؟ وهل الأمان في بيت الرابية عوّضه عن الأمن المهتزّ والمراقَب من مجهولين كانوا يترصّدونه وانتبه مرّات لوجودهم حول بيته الخاص؟
إنها العودة الى الرحم شاءَ زياد أم أبى. علماء النفس يقولون ذلك في حالته. يفقد المرء توازنه وعقله وعواطفه وحاضره وماضيه ومستقبله فلا يبقى له إلّا البيت - الرحم الذي احتضنه قبل ولادته وبعدها.. إلى حين. البيت الذي حين تغيب السقوف التي تحمي، والأيدي التي تعطي مجاناً بلا بيع وشراء، يطِلّ مُخلّصاً. البيت الذي غنى له كي ينام، وأيقظه باكراً إلى المدرسة، وفرَش لهُ الطريق لمواجهة الحياة. وفي النهاية هو نفسُه البيت الذي انتقده زياد، وكشفَ بعض أسراره في السياسة (بعض المقابلات) وخرجَ منه كالطفّار وعَرَّضَ بأصحابه وضيوفهم ظاناً أنه سيستطيع التبرّؤ، ذاك البيت عاد إليه زياد كالولد المخدوع بعد مأساة الزوج المخدوع التي دمّرت في كيانه كثيراً جداً وأبكتْهُ دماً على مصيره الذي كان مرميّاً، كلّ جزء في زاوية، وكلّ زاوية في غرفة سوداء وقد تحاشى في البداية نَشْر ذلك، ثم أعلنهُ كجزء من التداوي منهُ. والرواية تقول: أُصيبَ الرجلُ في كرامته وعنفوانه وأبوّته دفعة واحدة بعدما نزل عند رأي فيروز التي كانت تُغضبُها «رسائل» زوجة زياد القائلة «إصرفوا ما تريدون من أموالكم لكن تأكدوا أن الذي سيتمتع بها هو إبني عاصي الصغير». كانت فيروز محبَطة من «عدوّة» تتوعّدهم بهذا الشكل ولديها شك في نسَب عاصي الصغير لابنها زياد كونها لا تثق بالزوجة، بالإضافة إلى سبب آخر عميق هو أَلّا وجهَ شبَه بين زياد وعاصي ولا بين العائلتين! طلبَت فيروز من زياد فحص الـ«دي أن آي» للشاب عاصي إبن زياد من زوجته «الأولى». جُنّ زياد من الطلَب، رفض، واستَكْرَه وعنَّدَ لكنّ فيروز أصرّت مستندة على مسألة فقدان الشّبَه مع صفات عاصي الشاب الشكلية. لعبَ الفار في عُبّ زياد الذي، بصعوبة، اقتنع بالفحص وأجراه، له ولعاصي، فتبيّن أن عاصي ليس ابنه.. وهذه اعترافات شخصية له نُشرَت في كتُب.
شيء لا يوصف. كأنه في القصص. كأنه في التراجيديا الإغريقية: فنّان كبير وممتلئ حضوراً وذكاء يلتقط الخفايا «عالطاير»، يمرّ بكل المآسي الشخصية والصحية والنفسية معتقداً أن ثمة أماناً في الفن فيصطدم بالأدهى محسوساً وملموساً، وفي الولد.. فيتضح أن الأمان وَهْمٌ أبدي، وفي الّلهو فينقلب عذاباً روحياً، كيف عالج زياد هذه الشبكة العنكبوتية من الآلام والأحزان المتمادية في حياته؟ أسئلة كان لا بد من تغيير جذري عميق وصل الى الجينات لمعرفة إلى أين؟ لكنّ استحضارَ الماضي الفني ضروري...
في تصنيفه الفني، يمكن القول بلا أية مُبالغة أو تعجُّب: إن زياد الرحباني مارد. حين كشفَ عن مسرحيته الأولى «سهرية» سرى إنطباع أنه وريث شرعي ونسخةٌ مصغّرة عن أهله، لا إضافة ولا زيادة ولا ابتكار. عَرف زياد أن رد الفعل هذا لا يعكس ماهيّة مشروعه الفني التجاوُزي، فخرجَ مارد صغير من ذاته وقدّم «نزل السرور» التي أطلقت صفارة الإنذار عن ولادة كاتب مسرحيّ «غير شكل» وملحن «غير شكل» ومُخرج «غير شكل» قبل أن يأخذ التمثل جديّاً في «بالنسبة لبكرا شو» و«فيلم أميركي طويل» ويُطلِع المارد الجديد كممثل. هنا بات الكلام عنه في الأوساط الثقافية لا يربطه بأهله في شيء: لا اللغة المسرحية عنده رحبانية «الطابع»، ولا ألحانه، ولا كلمات أغانيه، ولا تمثيلُه ولا إخراجه الذي فعل بأهل الإخراج خضّة «علْمية» حاولت معرفة هذا الأسلوب الإخراجي العجيب الغريب القريب من الحياة العادية الصرف، بلا رتوش. صارت صورته رباعية الأبعاد ككاتب وملحن وممثل ومُخرج، وهو في كل ذلك نسيج نفسه لا نسيج أحد، ويعبّر عن أسلوبه، وأفكاره، ومشاعره، كما لم يعبّر أحد قبله. فإذا أخَذْته ككاتب مسرحي وجدتَ فيه قصةً وحبْكةً وشخصيّات نابضة متوترة تنبثق من الواقع وتصب فيه. وأكثر الإنتباه كان على حواراته. من تفاصيل العيش، والبيوت والمكاتب الحزبية والشوارع ودور المجانين، من تحت الأرض وفوقها، ومن اللفظ الشعبي المقرون بمنهجية مقصودة تؤدي في النهاية دوراً هو نقلُ الحياة إلى الخشبة ولكنْ بتصرُّف. تصرُّف زياد الرحباني بالسياسة العليا والمناطقية وبتهيُّؤات المصابين بأمراض نفسية وبأحوال البشر المهروسين بشؤون صغيرة وبالشعراء الملوّثين بالحداثة.. وبكل ما تمرّ عليه العين خلال النهار والليل. لاذع، مقاتل، غامض، مكشوف للأعمى، ومحصّن برؤيا نقدية لجميع حالاته هو، وحالات المجتمع، والبلد، وتعابيره التهكمية «لا يقف عليها طبيب» لنباهتها وابتكارها من الكلمات المألوفة ما يؤدي إلى ضحكٍ عام!
ومارد الكتابة المسرحية هو مارد اللحن. فَرّ إلى سيد درويش من الرحباني، ومِن هناك استلهم روحاً مسحوقة كان يراها، في كل مكان ضرَبتْه أزمات وخراب وحروب. سحَبَ من عصب سيد درويش خلايا عمِل عليها ليجد نفسه فيها ومبتعداً عنها في آن واحد، ومُشَكِّلاً لذاته خطّهُ الموسيقي المذهل الذي عُرف به. بدأ الطريق من الرحباني أولاً ثم انعطف الى سيد درويش وسار نحو مكان من الدهشة كان يظهر في الألحان التي تخترق المزاج وتعلَق به، وترسم دوائر متحركة كتلك التي تحدُث حين ترمي حجراً في بركة، ألحانٌ هي إبنة فكرةٍ محدّدة لديه، وخَيَال معاً تتحدث عن البسطاء وأحوالهم في التعتير المادي والمعنوي والغرامي واليومي. وليس من قبيل المصادفة أنه التقى بالمغني جوزف صقر، أدَاته الغنائية الساطعة ففعلَ به جزءاً مما فعل الأخَوان رحباني بفيروز، أي أن كل ما كان يتخيّل صناعته في الموسيقى كان يقولبه على مقاس صوته، وشخصيّته اللطيفة الرهيفة «السائرة والربّ راعيها». وكلمات الأغاني غالباً ما كانت تأخذ من الشارع وتعطيه، تفتح خزائن الأحاسيس والمفردات والتعليقات الذكية وترصفُها مشفوعة بالضحك على الدنيا ورجالها ونسائها وهلمّجرّا..
ماردُ التلحين المشبَع بالموسيقى المتنوعة المتعدّدة الأرواح، المتفنّن بتركيب المجازات في اللغة والموقف شدّته الموسيقى كعالم قائم بذاته، بعيداً عن الكلمات والأغاني (الجاز) وخطفَته إليها، وسريعاً ما اكتشف أنها موسيقى لآخَرين في الكون، فعاد وعُدنا إلى الألحان والأغاني التي «فرضَ» الرجوعَ إليها جمهور كان يظنه هو جمهور الجاز. ولعلّ التوزيع الموسيقي الذي سمعناه في عدد من أغاني فيروز الأخيرة ومنها «سلّملي عليه» وأغانٍ أُخرى للمغنية التونسية لطيفة منها «أمّنلي بيت» كان أدنى إلى من يلعبُ على روحية الأشياء والأوتار والناس، توزيعٌ هو ضربات موسيقية، وهمسُ آلاتٍ واختلاطُ أصواتٍ وتلوينُ أفكار ودخولٌ في أعماق الوجدان، كأنما هو الوجد الصوفيّ يُستعاد ويُرسِّخُ مكانته في الذاكرة. وإذا كان لقب «المؤلف الموسيقي» يُغري الموسيقي بمعناه الرفيع، فإن توزيعات موسيقى بعض ألحان زياد كانت أوسع وأعمق وأخصب مما يدعوننا بعضهم إلى اعتباره تأليفاً موسيقياً من أعمالهم!
مارس زياد الرحباني الجنون كاملاً. في الشخصي كان مجنوناً، في الفني والموسيقي والمسرحي كان مجنوناً. في نوع الغناء الذي أطلقه عبر مسرحياته وكاسيتاته كان مجنوناً. في حضوره الحزبي والسياسي كان مجنوناً. في آرائه التي اندفع بها كان مجنوناً. في إخراجه وحفلاته وأغانيه مع هواة وغير هواة كان مجنوناً. وحتى في ملابسه فقد حملَ عقدة الكراڤات التي حرصت فيروز على إظهاره بها وهو صغير، فنزعَها عن رقبته ولم يضع كراڤات بعد ذلك إلّا في حالات مضحِكة. ملابسُه كانت مجنونة، ولم يطلع مرّة على شاشة إلّا وكان وصف المجنون يرافقه.
لكنه كان جنون فنان حاذق بارع كاسر التقاليد والصّوَر والأنا والآخرين. لم يفارقه الجنون حين أقنع أمّه فيروز بغناء «ع هدير البوسطة» فصدم الجمهور، ثم أقنعها بغناء «بعتت لك» وهي لمغنية مغمورة، ثم أقنعها بغناء «وحدُن بيبقوا» وهي كان لحّنها لرونزا، ثم أقنعها بلحن «بكرا برجع بوقف معكن» الذي وضَعه لكشافة المدرسة في «الحكمة» ثم أقنعها بثلاثة أرباع الأغاني التي أنشدَتْها من ألحانه إيام الخلاف مع الأخوين رحباني وأنزلَتها الى التداول ولم يبقَ منها على بَريق مُعتَبَر إلّا «كيفك أنت» و«سلملي عليه» و«عودك رنان» وقلّة قليلة جداً...
كان زياد الرحباني في حاجة إلى صوت فيروز لكي يقول تجربته من خلاله. بدون فيروز كان ربما أختار أصواتاً عادية، لجأ إليها قبل الإنقطاع عن المُشاهَدة، فكان ليس مضموناً انتشارها. وكانت فيروز في حاجة إليه، لترتيب الأغاني القديمة على مقاس التعديلات التي فرضها العُمر على صوتها، فكانت إذَن ظروف موضوعية مُناسبة ليزرع خريطته الموسيقية على صوت فيروز.. ولا يهمّه لو نشبَ بعد ذلك اقتتال «أهلي» عند محبيها، بين مؤيد «للتجديد» بحكم الواقع ومعترِض عليه بحكم الذاكرة، وظلّ هذا الإقتتال واضحاً إلى اليوم.. اليوم حينَ تُوضع الأغاني التي كتبها ولحّنها زياد لفيروز تلك الفترة، أمام ماضي الأغاني الرحبانية لها، أو ألحان فيلمون وهبي الآسرة التي سكَبها أوائل الثمانينيات من شِعر جوزف حرب لها، ستتمّ مقارنة طاحنة بناءً على سؤال «ماذا نحبّ أكثر»!
بعض أغاني زياد الفاتنة كان حاملاً العصب الإيقاعي النابض مثل «عودك رنان» التي يستطيع السامع المتأني أن يتبيّن أصابع عاصي في التوزيع الموسيقى، واستخدام الإيقاعات الفائقة الجمال، خلف أصابع زياد وخَياله الفني الراقص، أما طريقة التوزيع الموسيقي فأجمل فوضى منظّمة على الإطلاق. وقيل كثيراً عن إيقاعات راقصة وجُمل كردية الأصل الفني في هذه الأغنية، لكنها أغنية ولا أروع!
وزياد الذي لا يعرف الوقوف على الحياد المألوف عند الفنانين، وشارك في التعبير عن الرأي الصادم في الحرب الأهلية، استمر بعدها، وخاض تجربة الصحافة اليومية، في عزّ هيَجان ٨ و١٤ آذار، وكانت له كتابات عارية تماماً من المهادنة، على مسحة فكاهة سوداء كثّفَت الجدل حول جدواها، وهل تأثيرها على جمهوره سيأتي سلباً أم إيجاباً، ولم يكن زياد مهتماً بمن يحبّ أو يكره تلك الكتابات، همّه كان أن يعلن انتمائه بصراحة إلى خط المقاومة وإلى سياسة رفضٍ مطلَق لمشاريع السياسة الغربية تجاه المنطقة، وكان حاداً وهجومياً ومتهكّماً على كبير المواقف وصغيرها. غير أن بعض «العارفين» بمآلات الأمور كانوا يرونه «يفش خلْقه» في كتاباته لا أكثر، والصحافيون «العتاق» كانوا يجزمون أنه سيضجر، ذلك أن الصحافة لغير أهلها المهنيين «مَهلكة». وتركَ زياد عاموده الصحفي بعدما راحت أوراق السياسة في البلد والمنطقة تختلطُ أفقياً وعامودياً، ووجد نفسه في «كَركَبة» عارمة مع أن ما قُدّمَ لهُ كان استثنائياً انطلاقاً من أهميته وحضوره الشعبي الكاسح.
ويبدو أنه منذ ابتعد عن الكتابة الصحفية، ابتعد عن الأضواء ودخل مرحلة ترتيب أوضاعه الشخصية كلها، وهو الآن، كما نعرف، في منطقة الأمان التي ورَد ذِكرُها آنفاً.
تعبَ زياد الرحباني من حياته. تعب من الفن والناس والمحبين والأصدقاء أكثر مما تعبَ من الأعداء. «تْخَلّص» فنياً وربما شخصياً من أبيه وعمّه وأمّه في مسرحيات (منها: «شي فاشل») وانتقادات علنية صادمة لكنْ حقيقية، وما بدَّل تبديلا في الثورة والرفض. وكان أحياناً يَعي أنه يتوهُ حتى الثمالة. بيوم، منذ خمس سنوات إتصل بي، على المعرفة البخيلة بيننا وبشكل مفاجئ قال: «الناس الطيبين لازم يلتقوا يا عبد الغني، ونحنا وإياك طيبين». فرِحتُ به. لكن صديقاً مقرّباً جداً منه قال لي: «كل مدّة بيروق ع بعض الناس وبيرجع بينسى».. وهكذا كان.
ثمة في حبي لزياد الرحباني شيء إسمه «ذات العُمر».. فأنا وهو من جيل واحد، ويعرف حبّي وصداقتي مع والده عاصي الرحباني إلى درجة أنه قال عني مرّة (ولا أدري إذا صدق الراوي!): «مش لازم حدا يحكي عن عاصي غيرو»، ويقصدني أنا. هذه الجملة لا تقرّبُني أكثر من عاصي إذا كانت صحيحة، ولا تبعدني عنه إذا كانت تَوليفة، بل تقول لي ما قال زياد هاتفياً أن الناس الطيبين لا بدّ لهم من لقاء.
أين سنرى زياد الرحباني قريباً؟.. على المسرح ؟.. وهل ما زالت لديه القدرة الصحية والجسدية ليقف ساعة ونصف ساعة أمام جمهور؟ أم أن الروايات التي تتحدّث عن عجائب حصلت لبعض الناس فجأة بلا سابق إنذار، كأن يقوموا من مرَض، أو يُبصروا بعد ظلام، أو يهبّ نسيمٌ غيبي يشحنهم بطاقة استثنائية غير منتظَرة، ستتحقق، فنرى زياد الرحباني على المسرح، حيث أحببناه طويلاً، وسلّمناه مفاتيح استشراف حربنا اللعينة، وكتبنا أجمل ما كتبنا عن فنونه الفاتنة، فنستعيدَ لا زياد بل أنفسَنا المتهالكة بالسياسة وكل أنواع النخاسة فيها، ونعود إلى الموسيقى والغناء والرقص والمسرح الذي زُرع في الرأس ولن تستخرجه أساطيل إذا أرادت؟
.. أم في غنائيات جديدة يكتب لنفسه فيها عُمراً جديداً مع مواهب وأصوات حقيقية تعيد الموسيقي الضال إلى الإعلام والعلاقة مع الناس، فنيّاً وإبداعيّاً؟ مع أن تجربة زياد في الحفلات الموسيقية الغنائية صدَمتْه من حيث «نفور» الجمهور (حسب رأيه) من الموسيقى وتفضيله الأغاني عليها، ومن حيث عدم حظوته بصوتٍ غنائي يملأ النفس ،ويحفّزها منذ غاب جوزف صقر، صديقه وبطلُه الأقرب، وإثرَ يأسِه من التعرّف على صوت نسائي يكمّل موسيقاهُ بعد تقدُّم عُمْر الوالدة، فجاءت الحفلات رغم جمهورها المتوافر والكثيف وربحها المادي، أقلّ بكثير مما يحلم إبن البيت الذي لم يفعل بيتُه سوى تحقيق الأحلام الجمالية للآخرين ليبقى هو، كما تقول المسرحية، على رصيف «المحطة»!
.. أم أننا سنيأسُ ونلطم كفاً بكفّ في تقييم خسارة فنية هائلة إسمها زياد الرحباني؟
كثير هو الكلام حول زياد الرحباني اليوم. أغلبُه أمنيات عند محبّين لا يعرفهم.
وسيعرف أنهم ينتظرونه ولو طال حسابُه مع كل شيء!