بيروت - لبنان

اخر الأخبار

12 آذار 2021 12:00ص سرير اللغات

حجم الخط
في الحادي والعشرين من شهر شباط المنصرم، احتفل العالم، واحتفلت الأونيسكو، باليوم العالمي للغة الأم.

تقليد جرت عليه الأمم، منذ أن أقرّته منظمة الأونيسكو في العام 1999.

ليس عند الإنسان أغلى من اللغة التي نشأ عليها، تهجّى حروفها من أمه، رضعها مع لبانها. ويظل رضيع أمه، مهما كبر، ومهما إغترب، ومهما علا شأنه، في مجاميع الترقّي والتعلّم والإغتراب.

البشرية كلها، في برهة خالدة من تاريخها، في برهة مؤسسة من وجودها، في برهة إنبساقها وتفتحها، كان للغات أن تتفتح منها، تفتح الورد.

البشرية كلها بهذا المعنى، إنما هي أم اللغات. وهي، بتنوّع البشرية، تتنوّع، وهي بالعناصر الجامعة بينها، تتلاقى وتتحد، وهي بالرؤى والكشوفات المستقبلية، تتآصر وتجتمع.

ليس في مقدور البشرية، وليس في مقدور الإنسانية، أن تتخلّى عمدا عما أولدت من اللغات، فجميع اللغات هي أولادها، هي نسلها.. فلا تظنن أن الوالدين يعدمون من أولدوا، يقتلون من أولدوا، يغتالون من أولدوا.. إلا أن يكون من الطغاة بيننا.

لا تعيش اللغات الأم، إلا كمساكب الورد في ديرة العاطفة والحنان. ولأن نشأتها، مثل نشأة الرضيع، يخشى أهلها بعد طول إغتراب، أن تضيع.

لهذا ربما، كانت إلتفاتة الأونيسكو إليها، كما الإلتفات إلى حقوق الطفل، في يوم الطفل العالمي.

في يوم اللغة الأم العالمي، يحبو العالم كله على العتبات المقدسة، عتبات أمه وأسرته وأهله ومنابته. يشعر العالم كله بالطفولة البكر التي أولدته، يصغي بكل جوارحه، إلى تلك العاطفة التي كانت قد تأتأت، حين كان يثغو، في حضن والديه.

ومثلما كان للطفل الصغير بعض الحروف المهجاة له، ينشأ عليها، فرحا، مرحا، ترحا، فإن لكل الأمم والشعوب سرير طفولة للغاتها.

في اليوم العالمي، للغة الأم، إنما نهزّ سرير الطفولة بيميننا، تهزّ أمهاتنا أثداء البشرية جمعاء، التي أرضعت أطفالنا حليب اللغات مع حليبها.

ليس من الصعب علينا، أن نشرح معنى تمسّكنا بدفاتر الطفولة، بصور الطفولة، بحبوات المدرسة، وبحبوات الرياض المدرسية. مثل هذه اللواعج التي توافينا من الذاكرة حين نصير في صفوف الكهولة، إنما هي بعض الحنين وبعض الأنين، للأنامل الطرية، وللشفاه التي تثغو بالأبجدية.

البشرية جمعاء، في طور الطفولة، حينما كانت تحبو، إلى الإنسانية، تهجّت لغاتها. وهذه اللغات القديمة التي تهجّتها، إنما هي سر حضورها الإنساني والعالمي اليوم. فلا تهتك الإنسانية أسرارها. ولا تشق أثوابها ولا أبدانها.

مئات اللغات ماتت بين ظهرانينا، ونحن كنا الأقوياء في المحافظة عليها.. خسرناها كما تخسر البشرية والإنسانية أطفالها.

ليس أصعب من الفقد، إلا الإحساس بعظمة المفقود.. هكذا نشعر اليوم بفقد مئات اللغات، قتلت بين ظهرانينا، وأدناها بأيدينا.. وجثونا على ركبتينا، نحثو التراب، نندب فقدا لا نستطيع إحياءه من جديد، مهما أتينا.

في اليوم العالمي للغات الأم، نطلقها دعوة عامة شاملة على مستوى الكون، أن تبادر منظمة الأونيسكو، لبناء «بنك اللغات القديمة».

فكيف نحافظ على البذور؟ وكيف نحفظ الأنواع؟ وكيف نجعل للأنسجة والخلايا البنوك التي تحفظها وتحميها، ولا نجعل للغات القديمة بنوكا تحفظها وتحميها، وتعيد إنشاءها وإحياءها من جديد، حالما تكون الإنسانية، قد وصلت إلى بعض مراقيها؟!

إهمال اللغات القديمة، إنما هو نوع من إهمال الإخوّة والأبوّة والأمومة الجامعة.. فكيف نصير إلى الحداثة، وقد سلخنا عنا أديمنا.. وقد سلخنا عنا قديمنا.. وقد قتلنا فينا تاريخنا، وخلعنا منا عيوننا؟

هي دعوة من منابر الشرق، للحفاظ على لغات الشرق القديمة. فأين السريانية والكنعانية، في كتبنا المدرسية؟ أين لغات دجلة والفرات والنيل؟ أين لغات البوادي العربية؟ بل أين اللغات التي كانت لغة التخاطب، مع الرياح، مع الثلوج، مع القمم، مع السهول، مع الحقول، مع المراعي، مع المواسم، مع الفصول..؟ أين أثلامها؟ أين أقلامها، في الدفاتر القروية؟

هي دعوة شرقية، لنحفظ ذخائر الشرق الذي لم يبقَ من نسله إلا اللغة.

طغى الغرب عليه بقرنه، فما عاد له إلا الإحتفاظ بأصله اللغوي، رسالة له.

فهل نمزّق بأيدينا الرسالات السماوية؟..

في اليوم العالمي للغات الأم، نبادر لنلمس تجاعيد الخشونة، في جبين اللغة الأم، التي حملتنا ذات يوم، حتى نصير اليوم من أحفادها. فهل نحفظ الرحمة، التي أولدتنا ذات يوم أرحامها؟

تعالوا نحافظ على رحمنا الواحدة.. تعالوا نحافظ على لغاتنا الواحدة.. تعالوا ننبذ الكراهية.. تعالوا نحفظ الرحمة بيننا.. رحمة اللغة، فهي من رحم أم واحدة.


أستاذ في الجامعة اللبنانية