بيروت - لبنان

اخر الأخبار

23 كانون الأول 2020 12:00ص سلسلة «دراساتٌ في الشِّعري» (3) في شعريِّة نصِّ الأغنية عند «الأخوين رحباني»

حجم الخط
لَئِنْ بَدَأَ «الأَخوان رَحْباني» وَضْعَ نُصوصِ «الأُغنية» طِيلةَ زهاء نِصفِ قرنٍ مِن الزَّمن، امتدَّ مِن منتصفِ أربعينات القرن العشرين، واستمرَّ حتَّى نهاية ثمانِيناتِ ذلكَ القرن؛ فلقد عرف التَّاريخُ الأدبيُّ للبنانُ، حركةً دؤوب في مجال الشِّعر. لعلَّ من العوامل الأساس، لهذه الحركة، ما عاشه هذا البلد، وما برح يعيشه، مِن عوامل تَغييرٍ، اجتماعيٍّ وسياسيٍّ واقتصاديٍّ، طَبَعَتْهُ بطابعها، بين سائرِ المجتمعاتِ والدُّول العربيَّة، على مرِّ العصور.

يَشْهَدُ النِّتاجُ الشِّعريُّ في لُبنانَ، منذُ منتصفِ القرن العشرين، لِتجارب عديدة في استخدام اللُّغةِ، بشكل عام؛ والتَّنَقُّل بين العربيَّةِ الفُصحى والمَحكِيَّة؛ ضمن مواصفاتِ رُقِيِّ التَّوصيلِ وجمالِيَّاتِ الصُّورةِ والفِكرةِ والتَّعبيرِ بهما. ولَمْ يكن «نَصَّ الأُغنيةِ» لِيَغِيبَ عن هذه السَّاحةِ الرَّائعةِ على الإطلاق؛ فباتت «الأُغنية اللُّبنانيَّةُ» مَطْرَحاً لِتَقديمِ فنٍّ إبداعيٍّ عَبْرَ النَّصِّ. أصبحت هذه «الأُغنية»، عَبْرَ نَصِّها، مَحَطَّاً لِـ «شِعْرِيٍّ» يتألَّقُ به هذا النَّصُّ ويزهو؛ حتَّى على كثيرٍ مِن نصوصٍ أُخرى، تنتسبُ إلى «الشِّعر» أو تَدَّعيه.

صارَ «الشِّعرُ» في لبنان، نتيجةَ كلِّ هذا، فُسحةً أَدَبِيَّةً وثقافيَّةً كبرى: انعكست عليها، كما تفاعلت معها، هذه العواملُ برمَّتها. وكانَ أنْ وجدت، هذه الأمور، في الشِّعر، مجالاً خَصباً ومِعطاءً لنموٍّ أَدَبِيٍّ وغِنىً ثقافيٍّ تَجَلِّياً في تَعَدُّدِ التُّوجهات الفَنِيَّةِ فيه وعَبْرَه، وتنوُّع موضوعاتها. ويُمكن القَوْلُ، تالياً، إنَّ النِّتاجَ الشِّعريَّ في لبنان، مَثَّلَ، وما أنفكَّ يمثِّلُ، بُؤرةً شِعريِّةً عربيَّةً وإنسانيَّةً بامتياز؛ وهي بؤرةٌ اختبرت صراعات كُبرى أساسيَّةً وتأسيسيَّةً بين «المَوْروثِ» والوافِدِ»، وكذلكَ بينَ «التَّقليديِّ» و«الحَداثيِّ»؛ الأمرُ الذي وَضَعَ النِّتاج الشِّعريَّ في لبنان، في واجهةِ القُدرةِ الأدبيَّةِ العربيَّةِ على التَّفاعلِ مَعَ الواقعِ، والسَّعيِّ إلى تَوفيرِ الإبداعِ الفنيِّ والفكريِّ.

قَدَّمَ «الأَخوان رَحباني»، خلال زهاء نصف قرنٍ مِن امتداد تجربتهما في وضعِ الأغاني، كَمَّاً هائلاً مِن النُّصوصِ التي أثبتت، غالبيُّتها العظمى، وجودَها الأدبيّ الجماليّ؛ وبرهنت عن قدرةٍ طيِّبةٍ في الإقبالِ عليها مِن قِبَلِ الجمهور. ولقد كانَ للنَّصِّ، كما لِلَّحنِ، فاعليَّةً أساساً في ذُيوعِ هذهِ الأغاني واستمرارِ تَعَلُّقِ مُتَلقِّيها، أو مُسْتَقْبِلِها، بها؛ رغمَ امتدادِ الزَّمنِ وتَغَيُّرِ الأحداث. وسيَنْصَبُّ الاهتمامُ البحثيُّ، هَهُنا، على متابعةِ فاعليَّةِ ما هو «شِعْرِيٌّ» في هذا المجالِ مِنْ دونِ سواه؛ وذلك، متابعةً لِخُطَّةِ عمل هذه الدِّراسة، بغضِّ النَّظر عمَّا قد يكون في هذا الأمر من إجحافِ، قد تفرضه طبيعة العمل، بحقِّ تكاملٍ ما لـ «شِعْرِيَّة» نصِّ الأغنيَّة» مع «شِعْرِيَّةِ اللَّحْنِ».

لن ينصبُّ الاهتمامُ، ههنا، على موضوعِ واضعِ نَصِّ «الأغنيةِ»، باعتباره فرداً؛ قدر ما سَيكون موضوعُ البحثِ قائماً على نصِّ الأغنيةِ الذي وضعه «المُرْسِلُ» وقام «المتلقِّي» باستقباله. ويمكن، تالياً وعَبْرَ هذا الاهتمام، تحقيقُ التَّجاوزِ الموضوعيّ لكلِّ ما أُثيرَ، أو يُمكنُ أن يُثار، مِن أمورٍ، ولو شَكْلِيَّةٍ، عن أيِّ انفصامٍ أو تَمايزٍ بين ما هو «عاصي الرَّحباني» (1923-1986) وبينَ ما هو «منصور الرَّحباني» (1925-2009)، في هذا المجال. إنَّ الغرضَ، الأساسَ، هَهُنا، يَنْحَصِرُ في السَّعيِّ إلى قراءةٍ لِنَصِّ «الأخوين رحباني»؛ بحثاً عمَّا في هذا النَّصِّ مِن حُضورٍ لـ «الشِّعريِّ»، أو ملامح لهذا الحضور. 

يُمْكِنُ القَوْلُ، بعد كُلِّ ما سَبَقَ أعلاه، إنَّ ثمَّة وحدةَ وُجودٍ إنسانيَّةٍ، قائمةِ بذاتها، تَكْتُبُ النَّصَّ الأدبيَّ، اسمُها «الأخوان رحباني» (1947-1986)؛ إِذْ يُمكن اعتمادُ «سنة 1947» تاريخاً لبدايةِ تجربةِ «الأَخوينِ رَحباني»؛ ففي هذا التَّاريخِ، التحقَ «عاصي الرَّحبانيّ» بـ «الإذاعة اللَّبنانيَّة»، بصفةِ عازفٍ ومِن ثَمَّ مُلَحِّنٍ؛ وقد تَبِعَهُ، بعدَ وقتٍ قليلٍ، شقيقهُ «منصور الرَّحبانيّ». وهكذا، بدأَ اسمُ «الأَخوين رَحباني» يَظْهَرُ في هذهِ المرحلةِ، مِن خِلالِ تقديمِ نُصوصِ أَغانٍ وتلحينها؛ فضلاً عن وَضْعِ أعمالٍ مَسْرَحِيَّةٍ إِذاعِيَّةٍ. كما يُمْكِنُ اعتمادُ «سنة 1986»، تاريخَ نِهايةِ تَجرُبةِ «الأَخوين رَحباني»؛ إِذْ في هذهِ السَّنَةِ كانت وفاةُ «عاصي الرَّحباني»؛ واستمرارُ «منصور الرَّحباني»، في العمل الفنيِّ، بإسمه وحده. ولا بُدَّ مِن التَّأكيدُ، هَهُنا، أنَّ هذه الوحدةُ، من الوجودِ الإنسانيِّ، بين «عاصي» و«منصور»، متشكِّلةٌ مِن تلاقٍ معرِفِيٍّ ورُؤيَويٍّ وحضاريٍّ وفنيٍّ، يَضُمُّ كُلاًّ مِن إِنسانينِ، بحدِّ ذاتيهما، هُما «عاصي الرَّحباني» و«مَنصور الرَّحباني».

مِنَ المعروفِ أنَّ نَصَّ «الأَخوين رَحباني» مرَّ بمحطاتٍ أساسٍ عديدة، تاريخيَّة ومضمونيَّة وشكليَّة؛ عَبْرَ مسيرتهِ المُمْتدَّةِ مِن أُخريات أربعيناتِ القرنِ العشرين، وحتَّى التَّوقُّفِ عن وضعِ النًّصوصِ مِن قِبَلِ «الأخوين رحباني»، بوفاةِ «عاصي الرَّحباني» في 21 حزيران 1986. وهكذا، توقَّفت تلك الوحدةُ الثُّنائية، المتشكِّلة من التَّلاقي المعرِفِيِّ والرُّؤيويِّ والحضاريِّ والفنِّيِّ، بين كلًّ مِن «عاصي» و«منصور». لقد تفاعَلَ نصُّ «الأخوين رحباني» مع المتغيِّرات الزَّمانيَّة والمكانيَّة التي وُضِعَ فيها، خلال اثنتين وأربعين سنة؛ كما تنوَّع هذا النَّصُّ بين عربيَّةٍ فصحى وأخرى محكيَّة، وتعدَّد بين توجُّهٍ عبر الأغنية والأنشودة والحوار والسَّرد؛ وكذلك بين إظهارٍ إذاعيِّ أو مسرحيِّ أو تِّلفزيونيِّ أو سِّينمائيِّ، وسوى ذلك من هذه الأمور ومثيلاتها.

ثمَّة ميزةٌ حلوةٌ، يمكنُ لموضوعِها أن يعترضَ سبيلَ الكلامِ في شِعْرِيَّةِ نَصِّ «الأَخوين رَحباني»؛ تتمثَّل في أنَّ شِعْرِيَّةَ نصِّ «الأَخوين رَحباني» لَمْ تَصِل، في غالب الأحيانِ، إنْ لَمْ يَكُنْ في كُلِيَّتها، إلى متلقِّيها أو مُسْتَقْبِلِها، إلاَّ مرتبطةً بتشكُّلاتِ النَّغم والأداء؛ وهي تشكُّلاتٌ قادرةٌ على توفيرِ ما يُمكنُ اعتباره مِن بابِ «شِعْرِيَّةِ التَّنْغيمِ» و«شِعْرِيَّةِ الصَّوتِ»، فَضْلاً عَن ما يمكن تسميتُهُ بـ «شِعْريِّةِ الجَوِّ العام». لا بُدَّ، لدرس في جميعِ هذه «الشِّعرِيَّاتِ»، مِنْ أنْ يَجِدَ طريقه إلى التَّحقيقِ، في دراسةٍ، أخرى، مُوَسَّعةٍ ومستفيضة. إنَّ «شعريَّة الحضورِ»، المسرحيِّ، وما ينهضُ عليهِ مِنْ مُتَمِّماتِ الأداءِ وملحقاتِهِ، من ديكور ومؤثِّرات إضاءة وإخراجُ الصَّوت وسوى ذلك، يمكن أن تشكِّل «شعريَّة الجوِّ العامِّ»، باعتبار ما يمكن أن توفّره هذه المُتَمِّماتُ من مادَّة ارتباطٍ بالنَّصِّ في مرَّات معيَّنة.

وتَتَتَمثَّلُ «شِعريَّة التَّنغيم»، ههنا، بالتَّلحين الموسيقيِّ الذي قدَّمه «الأخوان رحباني» لنَصِّ أغنيتهما؛ كما تتمثَّل «شعريَّةِ الصَّوت»، من جهةٍ أخرى، بارتباط تقديم النَّصِّ بصوت «السيِّدة فيروز» في أغلب الأحيان؛ إِذْ ثَمَّة مُغَنُّونَ كُثُرٌ، أفراد، مِثل الأساتذة «نصري شمس الدِّين» و«وديع الصَّافي» و«صباح» و«هدى حدَّاد» و«جوزف عازار» و«جوزف ناصيف»، وجماعات، مثل «كَوْرَس» الإذاعات و«كُورال» المَسْرَحِيَّاتِ، قدَّموا أغاني «الأَخوين رَحباني»؛ بَيْدَ أنَّ صوتَ السيِّدة «فيروز»، كانَ الأكثرَ غزارةً واشتِهاراً في هذا المجال. ولا بدَّ من التَّأكيد، تالِياً، على أنَّ هذه النَّماذج هي مِن بابِ المِثالِ، على شِعْريَّةِ «الأَخوَيْن رَحباني»، لَيْس أكثر؛ ومِن هُنا، فإنَّ الأمرَ يستَحِقُّ تَوَسَّعاً في العَرْضِ والتَّحليلِ.

سيكون السَّعيُ، في هذه السِّلسِلَةِ/الدَّراسةِ، عَبْرَ استقبالِ، أو تَلَقِّي، «نصّ الأغنيةِ» عند «الأَخوين رَحباني»، مِنْ دونِ سواه مِن نصوصهم الأخرى، غير المغنَّاة؛ احتراماً لِخصوصيَّةِ موضوعِ البحث. وسيكونُ العملُ، مِن ثَمَّ، على استكشافٍ لـ «الشِّعريٍّ» في هذا النَّصِّ تحديداً، لكن باعتبارِهِ «نَصَّاً مَقْرُوءاً»، وليس «نَصَّاً يُؤَدَّى بالغِناءِ» أو «نَصَّاً يُمَسْرَح»؛ أي من دونِ الأخذِ بعين الاعتبار ما كان يُلازم هذا النَّص من عناصر قد تساهمُ، سلباً أو إيجاباً، في فاعليَّتهِ الشِّعرِيّة.

وإلى اللقاء مع الحلقة الرَّابعة «شِعْرِيَّةُ توالي العناصر التَّشكيليَّة»

------------------

* دكتوراه في النقد الأدبي من جامعة أكسفورد

رئيس المركز الثقافي الإسلامي