«التَّوازي»، وفاقاً لما يرد في «معجم لسان العرب» لابن منظور، هو ما يفيد المقابلة والمواجهة.( باب الياء/فصل الواو: مادة (و ز ي) ومصطلح «التَّوازي»، بحد ذاته، مصطلح رياضيُّ، انتقل، من الرِّياضيَّاتِ، مع توسُّع مفاهيم العلوم، إلى مجالات الدَّرس النَّقدي الأدبيِّ؛ وظهر بمثابةِ بديلٍ لِسانِيٍّ، حلَّ مَحَلَّ المفاهيم التي طالما كانت تختزلُ كلَّ أشكالِ التَّوازنِ والتَّناظر البلاغيَّة التَّقليديَّةِ (Daniel & Delas: 73) يستخدم التَّوازي في الأدب، للإضاءة المُشِعَّةِ على موضوعٍ ما، جَذْباً للقارئ، من جهةٍ، وتسهيلاً لانْزِراعِ الفِكرةِ في ذاكرةِ هذا المُتَلقِّي/المُسْتَقْبِلِ ووجدانه من جهة أُخرى.
مِن المُلاحَظِ أنَّه غالباً ما يكون استخدام التَّوازي في «النَّصِّ»/«الكلامِ» الأدبيِّ في الخُطَب والأمثال؛ إذ عادة ما يتمُّ تلقِّيها/استِقْبالها سماعاً إثر المُشافَهَةِ. ومن أمثلة التَّوازي السَّاطعة، في هذا المجال، خطبة قس بن ساعدة، «أيها الناس من عاش فات»، باللغة العربية، وخطبة مارتن لوثر كينغ، «لديّ حلم»، باللغة الإنكليزية.
مِمَّا يرِدُ في خطبة قِسْ بن ساعِدة؛ قولُهُ «يا أيها النَّاس، اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، إنَّه من عاش مات، ومن مات فات، وكلُّ ما هو آت آت، مطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وآباء وأمهات، وأحياء وأموات، جمع وأشتات وآيات، وأرض ذات رتاج، وبحار ذات أمواج، ألخ...» ومِمَّا يرد في خطبة مارتن لوثر كينغ:
«I have a dream that one day this nation will rise up and live out the true meaning of its creed: «We hold these truths to be self-evident; that all men are created equal.»
I have a dream that one day on the red hills of Georgia the sons of former slaves and the sons of former slave owners will be able to sit down together at the table of brotherhood.
I have a dream that one day even the state of Mississippi, a state sweltering with the heat of injustice, sweltering with the heat of oppression, will be transformed into an oasis of freedom and justice».
إنَّ «التَّوازي المُتباين»، هو «توازٍ» غابت عنه عناصر التَّوازن والتَّناظر؛ إذ هو بنية تنهض على مكوِّنات أو عناصر قد تبدو متباينة ظاهرِيَّاً وغير مترابطة أو حتَّى منسجمة، فيما بينها؛ فتظهر وكأنَّها غير منتظمة أو متباعدة وربما متنافرة. بيد أنَّ هذه المكوِّنات، برمَّتها، إذا ما كان لها أن تنتظم ضمن تشكُّلٍ بنائيٍّ وموضوعيٍّ، يتمكَّن من الجمع بينها، فإنَّ إيقاعاً مضمونيَّاً وبنائيَّاً قد يُظهر انتظاماً لها يشير إلى تجانسٍ ما في تجاورها أو تلاحقها. يؤمِّنُ هذا «الانتظام» ظهور فاعليَّة شعريَّة، تتحوّل بها هذه البنية من محدوديَّة التقرير الجامدة، إلى فاعليَّة التفاعل الشعري المطلقة.
قَدْ تُقدِّمُ مجموعةُ لوحاتِ «حِذاءِ الفَلاَّح» (The Farmer Shoe)، المشهورة، لِلرسَّام التَّشكيلي الهولنديِّ، «فنسنت فان كوخ» (Vincent van Gogh) (1835-1890)، أنموذجاً طيِّباً في هذا المجال. قامَ هذا الفنَّانُ بِوْضْعِ عددٍ مِن اللَّوحاتِ، خصَّها بِرسمِ حِذاءٍ قديمٍ مُهْترئٍ لِفلاَّح. واقعُ الحالِ، فإنَّ الحذاءَ القديمَ المُهترئَ، بِحَدِّ ذاتِه، أَمْرٌ قدْ لا يكونَ، في ظاهِرِهِ، جميلاً، أو حتَّى شِعْرِيَّاً؛ لكن ما دَفَعَ بِمجموعةِ لَوْحَاتِ «فنسنت فان كوخ»، هذه، لِتحظى بِما لاقتهُ مِنْ إعجابٍ لافتٍ مِن الفنَّانين والنُّقَّاد وكثيرٍ مِن «المتلقِّين»/«المُسْتَقْبِلين»؛ إلى درجةٍ حَمَلَتْ كثيرين إلى التَّهافُتِ على اقْتِنائها، ولَوْ كلَّفَ شِراؤها مبالغَ طائلة؟
واقعُ الحالِ، إنَّ في هذه اللَّوحاتِ بنيةً فنيَّةً، تنهضُ على فاعِلِيَّةٍ شِعْرِيَّةٍ؛ قِوامُها تباينٌ فَجٌّ بَيْنَ «التَّفاهَةِ» الشَّكليَّةِ للحِذاء القَديمِ والمُهترئ، مِن جِهةٍ، والقدراتِ الفَنِيَّةِ للتَّعبيرِ التَّشكيليِّ المُسْتَخْدَمَةِ في رَسْمِ هذا الحِذْاءِ. أصبحَ الحذاءُ، موضوعَ اللَّوحاتِ، بـ «تفاهته» الظَّاهِريّةِ، مُسْتَوْعَباً لِجمالِيَّةِ الطَّاقاتِ الفَنِّيَّةِ للرَّسَّامِ؛ ومِن هنا، فإنَّ الجَمْعَ الإبداعيَّ في هذهِ اللَّوحاتِ، بينَ هذينِ المُتبايَنَيْنِ، «وُجودُ الحِذاءِ» و«جَمالِيَّةُ التَّشكيلِ الفنِّي للفنَّانِ التَّشْكِيليِّ»، أدَّى إلى انْبِثاقٍ لِفاعِلِيَّةٍ جَمالِيَّةٍ (شِعْرِيَّةٍ) مَيَّزتْ اللَّوحات.
المكتبة:
< ابن منظور، معجم لسان العرب، باب الياء/فصل الواو: مادة (و ز ي).
• Delas, J. ill, Linguistique et poétique, langue et language, Larousse, Paris 1973.
********
وإلى اللِّقاء، مع الحلقة الثَّامِنَةِ: «شِعْرِيَّةُ التَّوازي المُتبايِن في نَصِّ الأَخَوَيْن رَحباني»
------------------------------------
* دكتوراه في النَّقد من جامعة أكسفورد
(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)