بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 تشرين الأول 2022 12:00ص «سيزيف» قراءة نادية كريت لأعمال نعيم تلحوق

غلاف الكتاب غلاف الكتاب
حجم الخط
الحفر في تاريخ الفلسفة الإشراقية، لا يتم عادة، إلا من خلال مساءلة مجموعة من الإشكاليات المطروحة، في الفضاء العربي والإنساني. وذلك إستنادا إلى الفكر الديني والميثولوجي. إذ ذاك ينفتح الباب على مصراعيه، أمام الباحث، ليغوص في أعماق الفكر، وما يشف عنه من حالات المواجدة. فتتشكل لديه، مجموعة من القضايا الإشكالية، يحاول أن يسبر أغوارها بعدّته الثقافية والأكاديمية. وربما ذهب إلى ذلك، مساهمة منه في النقاش اللامحدود، ولو بلا إختصاص. إذ ليس المختصون وحدهم، هم المسؤولون عن التخويض، في المتاهات التجريبية، لأن التجربة الروحية، إنما هي من شأن العامة، أكثر مما هي من شأن الخاصة.
فالإنسان العادي، تعامل مع التجربة الإشراقية، بقوة العري، أكثر من قوة الإمتلاء. وحده العري، يحفّزنا على الحفر، حتى الفضاوات، للبحث عن سبل الهواء. ولا تشذ «نادية كريت. سيزيف: لعبة الدائرة في شعر نعيم تلحوق. الفرات للنشر والتوزيع. رأس بيروت. الحمرا. بناية رسامني. الطابق السفلي. ط١. 2015. 90ص. تقريبا»، وهي التي كتبت على ظهر الغلاف: «عالم (نعيم تلحوق) غباري كثيف، ضبابي، شاعري وموسيقي في آن. إنها طريقته في الإبداع. إنه يضع نفسه في عالم من غبار، فلا يعود هناك أية دلالة هرمونية تثبت أنه موجود على أرض الحياة الواقعية المنغمة في طبيعتها. فيرى نفسه في فلك قائم على مجموعة من غبار، وبين غبار كثيف، يستعيده لينبش منه سديم الفكرة وسديم الحياة وسديم اللغة».
قراءة نادية كريت، لأعمال نعيم تلحوق، جعلتها تسبر أغوار ذلك الشخص الكوني الفاني، في أطلس العالم الحقيقي. ذلك الشخص الباحث عن أول الحرف، وعن منتهى المعنى. والذي يجدف بيدين عاريتين، سابحا في فضاوات العدمية اللامتناهية. نسمعها تقول في سيزيف/ نعيم تلحوق: «الطفل العجوز - ص15»:
(أود أن أقول إن الفلسفة قد أيقظت في حنايا تلحوق الشاعر النائم، لا أدري؟ هل هو يأتي إلى الشعر من الفلسفة؟.. لا أدري. فأقول للقارئ تخيّل نفسك أمام فيلسوف صغير يذكّرك بالأمير الصغير للأديب الفرنسي الكبير Antoine de saint Exupery، طفل عجوز جميل بريء، ولكنه يسأل ويتساءل ويريد الوصول إلى ماذا؟ إلى عالم العجزة والشيوخ والفلاسفة الذين ينضجون بتجارب الدنيا ومراراتها..).
وجدت الباحثة الألمعية نادية كريت، في شخص نعيم تلحوق الضئيل، أنه يخبئ في ذاته شمشون تارة، وسيزيف تارة أخرى. فأخذت تحفر للبحث عن رجلين عملاقين، يفضيان إلى المعنى الضئيل فيه. وهي تعيد تشييد مجسّم له. تعيد تشييد حياته والعالم، من خلال تدوين أطلس خيالي. وبشكل شخصي بدت الباحثة، كثيرة الإهتمام بالخرائط وقسوتها، وكيف تتحكم الجغرافيا الروحية عند نعيم تلحوق، على حساب جغرافيا العالم المرئي. تحاول الباحثة أن تعري ذات هذا المفكر - الشاعر. تمزق عنه الصورة، لتحظى بالهيولى. فهي الأساس بنظرها. وهي أول البدايات، لعالم مدهش. إبتدأ من يديه، ولا تزال عيونه تطارده، صعودا وهبوطا مع روحه، حتى الآن. تقول في «الثورة لأي هدف... ص27»:
ذلك لاحقا... «إمشِ» الدعوة لحركة أمامية. يبقى على الشاعر أن يضيف فعل من خلال دائرة النار، دائرة معمودية النار. هب إلى النضال. أقفز إلى القتال. ألغِ الرماد وحوّله إلى ألوان قرمزية، خضراوية تبعث الحياة أو أقلّه الجمر تحت الرماد الميت الباهت...).
تحاول الباحثة نادية كريت، في عملها: «سيزيف؛ لعبة الدائرة في شعر نعيم تلحوق» إقناع نفسها، بأنه تجرّب يديه في منطقة جديدة. تريد أن تكتب حياة المعذّب، لتصل إلى سرّه. سر الروح المعذّبة بمعناها. وهي تقلل من التوتر عندها، أثناء فترات الكتابة المجزأة عندها، لأنها متوحدة مع نفسها، في الوصول إلى الوجل الجحيمي، بل إلى الرجل الجحيمي، لحظة التعرض، إلى الإرتطام بمجرات، يسوقها نعيم تلحوق بقلبه آناً، وبعينيه كل آن. تقول في «الرمزية والثنائية - ص41»:
(يرتدي تلحوق في هذا الديوان/ شهوة القيامة، الحالتين: حالة المانخولية التي هي وليدة الإنهزامية والسقوط والخنوع والموت والعدم، للإنتقال إلى حالة القيامة المتمثلة بالمواجهة والتمرّد والتحدي والنضال، من أجل وطن عليه أن يشتعل، ومن أجل إنسان عليه أن يشتهي القيامة.. القيامة من الموت).
تكشف الباحثة عن أسرار نعيم تلحوق الكتابية، تجد في أعماله، الجزء الفطري، وغير المفكر فيه، وذلك من خلال علاقته باللغة، وفهم منطلقاتها، وفهم جمالياتها، وسبل تذوقها، ومن خلال الوعي المكتسب بفقه اللغة وجمالياتها أيضا. نسمعها تقول في «النقد النفساني - ص50»:
(ملاحظة هامة: كسر اللغة/ الثنائيات والطباقات/ كسر التقاليد المتعارف عليها/ كسر وحدة الكلمة ودمجها بكلمة أخرى/ كسر النظام السياسي القائم/ كسر موروث على حساب المعاصر... كسر الهزيمة بالإنتصار).
تكشف الباحثة عن اللغة المراوغة عند نعيم تلحوق. اللغة/ حمّالة الأوجه، اللغة المظللة بالمعاني المنغمسة في التجربة الإشراقية. ولو أنها كانت تجد في نصوصه وأشعاره، ما يشي، أو ينتمي «للمحكية» بدرجاتها المتنوعة. وهي تفسر تلك الإزدواجية، بأنها نوع من أنواع الشعرية الإشراقية غير المألوفة، حيث المستويات اللغوية تتجاور، في وظيفة الإبداع الإشكالي. تقول نادية كريت في «نعيم تلحوق الإيزوتيركي - ص53»:
(يظهر الإيزوتيرك بمثابة درب باطنية تغوص في أغوار الإنسان، وتتجه نحو حقائق الأمور، نحو اللاوعي أو الوعي الباطني، المهم معرفة «الذات». وكيف يتوسع الإنسان في شتى العلوم، حسب تعمّقه في معرفته لذاته، وهو يسير على درب الوعي).
تجد الباحثة نادية كريت، أن لغة نعيم تلحوق المشبعة بالإشراقية، إنما تخون صاحبها، تراوغه، وتذهب إلى أبعد من مقاصده. ولذلك يجد القارئ في نصوصه، الإنشغالات بالكشف، أكثر من الإنشغالات بالوقائع، حتى لكأنه يقدم العالم بطريقة مختلفة. إذ لغة نعيم تلحوق بطبيعتها «خوانة»، وهي ميزة عظمى في الكتابة، لا تجدها عند غيره من الكتّاب المعاصرين. وهي التي دفعته، لتقصّي الإشراقات الكامنة فيها.
تجد الباحثة، أن نعيم تلحوق، لا يرغب في محاكاة اللغة التراثية، بل يريد فقط، أن لا يتأبى عليها، لأنها في أصل تكوينه اللغوي، والفكري والفلسفي والعقدي والإشراقي. يريد منها فقط، أن يحوذ مستوى سرديا، أكثر جزالة من المستوى السردي المعاصر.
نعيم تلحوق، بصفته «سيزيف المعنى»، لا يتعب. وهو على كثرة حمولته، يستمر في الكتابة، كأنها قدره. ينقل صخرة الكتابة على ظهره من الوديان المهجورة في عالمه الغريب، ويرفعها إلى القنن. كأن ذلك شأنه اليومي، لا تخالطه راحة، ولا تهدئ إنفعالياته ولا إنشغاليات، أية إستراحة. تقول الباحثة عنه في «الحقول المعجمية - ص73»:
(تطالعك وأنت تقرأ النتاج الأدبي التلحوقي، حقول مفرداتية شاسعة، غزيرة المعنى، ولا متناهية، وصولا إلى المدى الذي لا وصول له في شعر ذلك الشاعر المكثف لدرجة تفجير المفردة).
يجسّد العنف، طبيعة الكتابة الإشراقية، كما تجد الكاتبة عند نعيم تلحوق. فهو برأيها، يلعب دورا في تحديد مسارات الفرد طوال العمر. وهي تتقرى سطوة العائلة وسطوة المجتمع، والسطوة الكونية، على عالمه، المنشغل في البحث عن تذرر الهيولى عنده. ولهذا تجده يذهب في المعرفة الغنوصية، حتى آخرها.. مستطلعا القدرات المفارقة للواقع، بحيث يجد في نفسه، أنه يرى ما لا يراه الآخرون.
إنه النور الإشراقي في نفس نعيم، وقعت عليه، الباحثة «نادية كريت» في «صورة سيزيف». فعل هدم، بقدر ما هو فعل بناء. بل إنه الرحلة الشاقة والمشوّقة، في الهدم لأجل إعادة البناء.
نعيم تلحوق المتمرّد، هو حقا في صورة سيزيف، الذي يتأبى على الواقع المهان، على يد الإنسان، وإرهاصاته الكتابية كلها، إنما تنادي عليه، ليحمل صخرة المعنى على كتفه، ويتنقل بها، بين قنن الجبال.
تكشف الباحثة حقا، «غيرة اللغات» عند نعيم تلحوق. وهذه ميزة، تميّزت بها نصوصه، فإستبانتها من خلال وضعها، كتاب سيزيف عنه. فهي ترى فيه بطلا متماسكا، بل ترى فيه البطل المتميّز، الذي هو فوق التماسك، لأنه حتّم على نفسه نقل صخرة المعنى الإشراقي وظلالها كلها. تلك الصخرة المترجرجة، التي عجز عن حملها الآخرون، وحملها نعيم تلحوق.

أستاذ في الجامعة اللبنانية