بيروت - لبنان

21 تموز 2022 12:00ص شعب ومطرقة وسندان

حجم الخط
مع تعدّد الأزمات وتقلّبها، ومع تعدّد فصولها ووجوهها، ومع إشتدادها على الناس، بظروف مختلفة، وبأحوال عامة، وبقواسم مشتركة، ترتفع الشعارات، وتنتخب العناوين، لتقطيع المرحلة التي تجتازها البلاد.
كنت باكرا، صباح هذا اليوم: يوم الأحد الواقع فيه 3/7/2022، إلى طاولة الرصيف، ذات مقهى، من مقاهي شارع الحمرا، فاجأني وصول أحد الأصدقاء مهرولا، كان قد اختار إستديو متواضعا في الجوار، لما تبقّى له من العمر. سألته عن وصوله باكرا إلى المقهى، وعما أحرجه فأخرجه في مثل هذا الوقت، وهو الذي يسهر في الحوانيت، إلى الهزيع الأخير من الليل؟ ضحك مني صاحبي، وقال: خرجت بكل أسف، في طلب «التواليت». أنت تعرف، ما معنى التواليت، لا المقهى لرجل في مثل سني، في هذا الوقت. عرفت أنه يريد تهوين أمره، وتسريح شيبته، وقد نفد الماء، وإنقطعت الكهرباء، وصارت العودة إلى القرية، بركة.
علمت آنئذ أن صديقي صار رأسه بالدق: بين مطرقة الماء وسندان الكهرباء.
إنتصر صديقي لحاجته، وغادر إلى حجرته المجاورة. وقد بدت على وجهه، علامات الفرح بالحياة.
مكثت أطالع، ما طالت يدي من الصحف والأوراق، في هذا الوقت المبكر، من يوم العطلة، وبجواري مطعم مقصود، لتقديم الوجبات السريعة. فحانت مني إلتفاتة، إلى موظف، قَدِم باكرا، إلى المطعم المجاور المذكور، وقد انتحى العامل في فنائه الخلفي. رأيته يحشو حقيبة «ثياب الشغل»، بربطات الخبز، ذات الرغيف الكبير، الرغيف الذي لا يستعمل في السندويشات ولا في الوجبات. رأيته يحشوها حشوا، كمسافر ضاقت حقيبته، بحوائجه الكثيرة. فأخذ يحشرها حشرا، ويشدّها شدّا ويزمّ أطرافها زمّا، محاولا بكل ما أوتي من قوة يدين، وعزيمة ساعدين، على أن يمغطها، ليجعلها تتسع، لأكثر من مرة ونصف، أو قل بكل ثقة، لأكثر من مرتين، من سعتها المعهودة.
أثار الرجل فضولي.. كنت «حشورا» معه كإعلامي.. تقدّمت منه وسألته بكل حياء وأدب، فأجابني بكل حياء وإستحياء وخجل: إن الخبز يباع «فلتا» هذه الأيام، في ظل إشتداد أزمة الطحين، وفي ظل توقف المطاحن والأفران، عن صناعة الرغيف، وفي ظل التهريب، وفي ظل السوق السوداء. وأنه يحصل من بيع هذه الأرغفة المهرّبة والمختلسة من الفرن، قوت عياله، قوت صغاره، لأن «يوميته» اليتيمة من الفجر إلى النجر، تكاد اليوم لا تفي ثمن علبة «سجائر»، وأجرة «فان». وأن رأسه ورأس عياله، صار بين مطرقة وسندان.
تفاعلت معه حقا. تذكّرت أنني كلفت «معقّب معاملات» من رجال «النافعة»، أن يرفع عن سيارتي «بلوك» دفع الميكانيك، لغرامة سير تعود إلى العام 2017. وقد أبلغني، بعد مطاردتي اليومية له بالهاتف، وتوددي الزائد له، حد قولي له: «أبوس إيدك خلص لي هالمعاملة» حتى أدفع الميكانيك، وأرتاح وأريح. فكان جوابه لي، بعد طول إنتظار: لا طوابع سير، لا إيصالات، لا شباك لدفع المحضر والمضابط، وحكم المحاكم.. لا موظف، منذ أن أعلن «معاليه» في الداخلية، عن تسهيل دفع الميكانيك.
علمت آنئذ، أن رأسي. أنني أنا نفسي، بنفسي، قد صرت أيضا بين مطرقة وسندان.
منذ شهور طويلة، والناس تبحث عن سبل الهجرة، ومغادرة البلاد، إلى غير رجعة. استحالت عليهم سبل العيش بعد «ثوة17-ت1»، وبعد حجر كورونا، وبعد إغلاق البنوك والمصارف. وصار البلد كله: لا كهرباء ولا ماء، ولا رواتب تفي بالحاجات، ولا أجور نقل، تجعل الموظف والعامل يصل إلى عمله.
وأضيفت إلى هذه الأزمات، أزمة جديدة: لا جوازات سفر، لا إخراجات قيد، لا إفادات، لا شهادات، ولا حتى وثيقة ولادة.
شعب ومطرقة وسندان، شعار جديد، رفعه اللبنانيون بعد إشتداد الأزمة فوق رؤوسهم. فقد حجزت ودائعهم، وأسقطت أجورهم وتعويضاتهم ورواتبهم، وتآكل الراتب التقاعدي، فلم يعد يساوي زيارة طبيب الشيخوخة أو ثمن دواء دائم أو ثمن عقار، للأمراض المزمنة، أو حتى بدل أجرة سرفيس، عذرا على هذا القول: صار الشعب بأم رأسه.. بل صار الشعب ورأسه، بين مطرقة وسندان.
تذكّرت الشعارت القديمة، تلك التي كان ترفعها الجماهير الشعبية، في الستينيات وفي السبعينيات: تلك الثنائية التي كانوا ينادون عليها، في الإحتجاجات وفي المظاهرات، وفي عز الإضرابات الطالبية في المدارس والثانويات والجامعات: من مثل قولهم: وطن حر وشعب سعيد. ومن مثل قولهم أيضا: وطني دائما على حق. ومن مثل قولهم: الله والوطن والعائلة. ثم دار الزمن دورته، فصرنا نقول: صيدا كرامة الجنوب. وقولهم: يدا بيد، الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية. وقولهم: شعب واحد في دولتين. ثم قولهم: أرض وشعب ومؤسسات.
فجأة غابت كل هاتيك الشعارات، وصرنا ننادي ونردّد وراء المنادين: جيش وشعب ومقاومة. وها هي المعادلة الثلاثية، المعادلة الذهبية، تنسحب من سوق الجهاد، لندخل في سوق البطيخ وننادي على الخضار، كما الوأواء الدمشقي، أو الصنوبري، وأبو الفرج الببغا، بعد موت سيف الدولة، وكبس أبي فراس الحمداني في حمص. أقول: صرنا ننادي ونثخن النداء، ونحن على حافة الهاوية، وتحت شفير المقصلة: نصرخ كما ناظم حكمت: آه يا وطني.. شعب ومطرقة وسندان.

أستاذ في الجامعة اللبنانية