بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 آذار 2020 12:09ص شفيق جدايل: الولادة والنََّشأة والدِّراسة (الحلقة الأولى)

الأستاذ شفيق جدايل الأستاذ شفيق جدايل
حجم الخط
د. 

  

كانَ يَوْمُ الثًّلاثاء، الواقع فيه العاشر من شهر شباط لسنة 1920 ميلاديَّة، يوماً غير معتادٍ من أيَّامِ بيروت في التَّاريخ المعاصر. الأمطارُ تتساقط بغزارةٍ، لم يألفها ناسُ المدينةِ من قبل؛ والرِّيح تَصْفُرُ، بما لم يعهده القَوْمُ على الإطلاق؛ والأدهى أنَّ درجةَ حرارةِ الجَوِّ باتت شديدةَ التَّدَنِّي، حتَّى احتار النَّاسُ كيف يحصلون على دِفءٍ يَقيهم غائلةَ الصَّقيع.

تَرَكَ مُعظم الأَهالي أعمالهم؛ هجروا الأسواق والشَّوارع وقَبَعوا في بيوتهم، يصطلون جمرَ الكَوانِينِ التي في منازلهم. بَيْدَ أنَّ شابَّاً من أبناءِ بيروت كان، آنذاك، مُنشغلاً بأمورٍ أخرى، غير البَرْدِ والاصطلاء بجمر الكانون. إنَّه «رمضان بن محمَّد جُمعة جَدايِل»، صاحب متجرٍ لِلْعُطورِ في «سوق الطَّويلة» في باطن بيروت. لقد كانت زوجُه، «لَبْوَة قَراقِيرَه»، في مخاضِ ولادةِ حَمْلِها الثَّاني، بعد إنجابها لابنهما البِكر «عفيف».

كان على «رمضان جدايل» أن يقف على أهبّة الاستعداد في منزله، الكائن في محلَّة الصَّنائعِ، تجاه موقع «سيَّار الدَّرك» في منطقة «فردان» اليوم، وتحديداً في الزُّقاقِ الذي اشتُهِر شعبِيَّاً بإسم عائلته، «زاروب جدايل»، يَضْرَعُ إلى الله سائلاً لزوجه ولادةً غير شاقَّة ولهما معاً مولوداً معافى؛ كما كان ينتظر تعليمات القابلة وأوامرها، تنقلها إليه بعض نساء العائلة، لتأمين ما يلزم من احتياجات الوضعِ في ذلك الصَّقيع الذي كان الوالِدُ يخشى سوء عواقبه على الوالدة والمولود.

فجأة، ينطلق «الصَّوتُ»، صوت المولود من غرفة الوالدة، يشقُّ عنان فضاء البيت؛ ولعلَّ إحدى السيِّدات خرجت من غرفة الأم، مُزَغْرِدَةً، تُبَشِّرُ أبا عفيف بسلامة الوالدة والمولود، وبأنَّه مولود ذكر. انهمرت دموعُ الفرحِ من عَيْنَي أبي عفيفٍ وهو يقول «اللهمَّ أشفقتَ عليهما وعليَّ؛ فهو إبني الثَّاني، وإنَّه، بإذنكَ يا ربّ، يا من أشفقت علينا جميعاً، شفيقٌ. إنَّه «شفيق»، إنَّه «شفيق رمضان جدايل».

تبدأ الثُّلوج بالإنهمار على بيروت مساء ذلك الثُّلاثاء. ويستمر تساقط الثَّلج طيلة الليل، ويصبح القومُ، فجرَ الأربعاء، وقد اكتست بيروت حلَّة ثلج أبيض لم تعرفها أبداً ذاكرة ناسها. ولقد دفعت هذه الواقعة أغلب البيروتيين، حينذاك، الى تأريخ الحوادث والمناسبات المختلفة بتلك الظاهرة المناخية الفريدة؛ فكانوا عندما يريدون أن يتحدَّثوا عن أمر ما، مؤرِّخين له، يقولون قبل «التَّلْجة» أو بعدها. وهكذا باتت سنة 1920 تُعْرَفُ، عند أهلِ بيروت، بأنَّها «سنة التَّلجة»، ويكونُ شفيق جدايل قد وُلِدَ، بالتَّحديد، «يوم التَّلجة».

قد يستحقُّ موضوعُ التَّأريخَ بـ «الثَّلجة»، لسنة 1920، في غيرِ هذا المقام، مزيداً من التَّبصُّرِ والتَّحليل في فهم طبيعة الوجدانِ الشَّعبيِّ البيروتيِّ. وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فإنَّ سنة 1920 شَهِدت تأسيس «مقهى الجمَّيزة»، في شرق بيروت، وتأسيس «حمَّام النُّزهة»، في غربها، وفي هذه السَّنة تأسَّست «بورصة بيروت» وتمَّ إنجاز القانون الأساسيّ للكشَّاف في لبنان وسُمِيَ هذا الكشَّاف رسميَّاً بإسم «الكشَّاف المسلم»؛ كما أُعْلِنَت، كذلك، «دولة لبنان الكبير». ومع هذا، فإنَّ الظَّاهرة المناخيَّة وحدها طغت على كلِّ تلك الأحداث السِّياسيَّة والاجتماعيَّة في الذَّاكرة الشَّعبيَّة البيروتيَّة، واستمرَّت سنة 1920 تعرف، شعبيَّاً، بإسم «سنة التَّلجة»!

وكيفما دار الأمر، فإنَّ في سيرةِ شفيق جدايل صورةً حقيقيَّةً وعرضاً واقعيَّاً ودرساً تاريخيَّاً عن هذا المُسْلِمِ البَيْروتِيِّ اللُّبنانيِّ الذي وُلِدَ عامَ إعلانِ «دولة لبنان الكبير»، وعاش في رحاب هذه الدَّولة ورافق تطوُّراتها وتحوُّلاتها وكان واحداً من مواطنيها، الذين تفاعلوا معها وبها ولها عبر توالي السِّنين وتتابُعِ الأحداث. ومن هنا، فإنَّ في سيرته هذه ما يشكِّل شهادة على عَيْشِهِ، وكثيرٍ من أبناءِ جيلهِ وأمثالهِ من اللبنانيين، في هذه الدَّولة وكيفيَّة انتمائهم إليها وتفاعلهم مع أوضاعها.

أمَّا أُسرة «جدايل»، التي منها «شفيق جدايل»، فعلى ما يبدو واحدةٌ من أُسَرٍ عربيَّةٍ متعدِّدة تَحْمِلُ اسم «جدايل» أو «جدائل»؛ ومنها أُسَرُ «أبو الجدائل» و«أبو الجدايل» و«أبو جدايل» و«جدايل» و«الجدايل» في العالم العربي. ويبدو أنَّ هذه جميعها ليست أُسْرَةً واحدة؛ وإنَّما هي أُسَرٌ متعدِّدَةٌ اكتسبت هذا اللَّقب من نسبتها إلى فخذٍ من قبيلةٍ أو صِفَةٍ أو مهنة. وقد يمكن، بالعودةِ إلى بعضِ دراسات الأنساب العربيَّة، ومنها دراسة الدكتور «حاتم بن صلاح بن سنوسي أبو الجدائل»، التي نشرها موقع «عائلة أبو الجدايل» الإلكتروني، القولَ إنَّ هناك عدَّةَ فروعٍ لأُسرِ «أبو الجدايل»؛ منها ما ينتسبُ إلى فخذِ «جديلة» من قبيلةِ «عنزة»، ومنها من ينتسب إلى صفةٍ لبعض أبناء القبائل العربيَّة التي اشتُهِر رجالها بصفة جدايلِ الشَّعر، مثل بني «عمرو». وثمَّة من «الجدايل» من ينتسب إلى جَدْلِ العِقالِ وجَدْلِ الحِبال، كأولئك المنتسبين إلى القبائل العربيَّة التي استوطنت المغرب ثم لبنان. ومن الباحثين من يرى أنَّ الأغلب الأعمَّ من أُسر «أبو الجدائل» التي انطلقت من الحجاز وهاجرت، في العهد الفاطمي، إلى مصر وبلاد الشَّام، وتحديداً سورية وفلسطين والأردن، هم «عُمَرِيُّون، أَيْ من ذُرِيَّة الخليفة الرَّاشد الثَّاني «عمر بن الخطاب» رضي الله عنه.

كانت التِّجارةُ شأنَ «رمضان جدايل»، والد «شفيق»، في كسب الرِّزق؛ مَثَلَهُ في هذا مَثَلُ كثيرين من ناس بيروت. فـ «رمضان جدايل»، كما سبقت الإشارة آنفاً، كان صاحب محلٍّ لصناعةِ العطور وبَيْعِها في «سوق الطَّويلة» في بيروت؛ كما كانَ له مشغلٌ صغير في بيته يُحَضِّرُ فيهِ خلطات العُطورِ الخاصَّةِ ذاتُ الأَريجِ المُتَمَيَّز. وصُنْعُ العطورِ وبَيْعُها، فضلاً عن كَوْنِ أوَّلهما مِهنةً وثانيهما تِجارةً، فإنَّهُما مجالٌ يَرْتَكِزُ العملُ فيه على معايير الجمالِ وحُسْنِ الذَّوقِ ورُقِيِّ الأَناقة. ولعلَّ هذه أمور تركت طابعاً ما لها في وجودِ «شفيق جدايل»؛ الذي هو ثاني أولاد العائلة، بعد بِكْرِها «عفيف»، ومن بعدهما وُلِدَ «مصطفى»، ثمَّ «شفيقة» وتلتها «نجاح» ثمَّ «رفيق».

أُلْحِقَ «شفيق»، طفلاً، بـ «مدرسة القِنطاري»، التَّابعة لمدارس «جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت»؛ ويبدو أنَّ بقاءه في هذه المدرسة لم يطلْ، إذ سُرعان ما أصبح من تلاميذ «المدرسة الإسلاميَّة الأزهريَّة»، التي كان تأسيسها سنة 1925 في منطقة «عائشة بكَّار»؛ وهي المدرسةُ الأكثر قُرباً، في موقِعِها من موقع سُكْنى عائلته بين هاتين المدرستين. ويبدو أنَّه كان لـ «المدرسة الأزهريَّة الإسلاميَّة»، التي يعتبر «شفيق جدايل» من أَوائِلِ التَّلاميذ الذين انتسبوا إليها فَوْرَ تأسيسِها، الفضلُ الأوَّل والأساس في بَذْرِ شخصيَّتهِ الثَّقافيَّة والاجتماعيَّة ورعايةِ هذه البَذْرَةِ وإنمائها؛ كما كانَ لمؤسِّس المدرسةِ، الشَّيخ «محمَّد عسَّاف»، الباع الطَّويل في هذا الأمر.

درسَ «شفيق جدايل» أُصولَ اللُّغةِ العربيَّة وعلومَ البلاغةِ والصَّرف والنَّحو والبيان والمعاني، فضلاً عن بعضِ معارفِ الفِقه الإسلاميِّ وحِفْظِ القرآن الكريم في «المدرسة الأزهريَّة الإسلاميَّة». وشدَّت نباهته، في علوم اللغةِ العربيَّةِ التي تلقَّاها كما قدراته على حُسْنِ الأداءِ للنَّصِّ القرآني الكريم، أَنظارَ مُعَلِّميه في المدرسة. ولعلَّ في انتشار الأخبارِ عن تفوقِّهِ هذا بين أقرانه، وتشجيعِ معلِّميهِ له في هذين المضمارين، ما ثبَّت قدميهِ في ميدانِ جودة الإلقاء والسَّعي إلى إتقان مبادئ العربيَّة لغةً وبياناً، تحريراً وشِفاها؛ فغدا صوته الصَّادح بأدائه السَّليم وتعبيره الجميل بالعربيَّة صفةً مميِّزةً له بين زملائه التَّلاميذ وعند أساتذته. وكان من هؤلاء الأساتذة، الذين واكبوا دراسةَ «شفيق جدايل» في صرحِ «المدرسة الأزهريَّة الإسلاميَّة»، أعلامٌ من ناس تلك المرحلة، منهم الشَّيخ «محمَّد عسَّاف» والشَّيخ «عبد الرَّحمن سلام» والشَّيخ «مصطفى الغلاييني»، فضلاً عن الأستاذ «محمَّد شامل» وآخرين. ومن جهةٍ أخرى، فقد انتسبَ «شفيق جدايل»، منذ التحاقه برحاب هذه المدرسة وعبرها، إلى الحركة الكشفيَّة؛ فكان منذ طفولته المدرسيَّةِ هذه في عِداد «جمعيَّة الكشَّاف المسلم»؛ التي وجد فيها أفقاً واسعاً يتعلَّم منه أمور الكشفيَّة وفنونها، كما وجد فيها ساحةً رحبةً تُشًجِّعُ موهبته في الإلقاء والإنشاء وتُتِيحُ لصوته مجالات خصبة في إثباتِ الوجودِ وإذكاءِ الموهبة.

انتقل «شفيق جدايل»، في مرحلة تحصيل المستويين المتوسِّط والثَّانوي من دراسته، إلى «كليَّة المقاصد»، في منطقة «الحرش» من بيروت؛ وتلمَّذ هناك على نخبةٍ أخرى رائعةٍ من كِبار الأساتذة والمربِّين؛ منهم الدكتور «عمر فرُّوخ» والدكتور «زكي النقَّاش» والأستاذ المهندس «إبراهيم عبد العال»، فضلاً عن الشِّيخ «محمَّد طاهر اللاَّدقي» والأستاذ الموسيقي «محمَّد فليفل»؛ وتخرَّج في «ثانوية الحرج»، كما كانت تُعرف شعبيَّاً، حاملاً «شهادة البكالوريا اللُّبنانيَّة». ولعلَّ صَنَوْبَرات «كليَّة المقاصد»، في منطقة «الحرش» من بيروت، ما برحت تحفظ في ذاكرتها صَوْتَ «شفيق جدايل»، وهو يَصْدَحُ في مبارياتِ الخَطابة، التي كانت تُقام في الكليَّة؛ كما تَذْكُرُ طولَ باعِهِ في نَظْمِ الشِّعرِ والوصفِ الإنشائيِّ، يقدِّمهما في قاعةِ الدَّرسِ بين يدي أساتذته. صارَ «الصَّوتُ» أشدَّ وضوحاً، وبدأ يتلمَّسُ لِذاتِهِ طريقاً عَذْبَةً يَشُقُّها بين تَراكيبِ العربيَّةِ ومعانيها في الشَّعرِ والنَّثْرِ على حَدٍّ سَواء. ولقد تَسَنَّى لـ «شفيق جدايل»، في هذه المرحلة من التَّحصيل المدرسيِّ الثَّانوي الالتحاق بدروس في مجال التَّربية في «الجامعة الأميركيَّة في بيروت».

تابعَ شفيق جدايل تَحصيله الدِّراسيَّ في المرحلةِ الجامعيَّة في «جامعة القديس يوسف» في بيروت؛ إذ انتسب فيها إلى معهدي «الحقوق» و«الآداب الشَّرقيَّة»؛ وأَعدَّ هناك دراسةً، ما برحت نسختها المخطوطة محفوظة لدى عائلته بين أوراقه الخاصَّة، في موضوعِ «المسرح العربي في مئة عام»، ونال على إثرها دبلوم الدِّراسات الشَّرقيَّة من «معهد الآداب الشَّرقيَّة» سنة 1946، وكان «شفيقٌ»، آنذاك، في السَّادسة والعشرين من سني العُمر. 

  رئيس المركز الثقافي الإسلامي