بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 تشرين الأول 2021 12:01ص صفو البيان حول تميُّز الإنسان

حجم الخط
د. محمود الذوّادي*



نَشرت المجلّة العِلميّة الأميركيّة الشهيرة Scientific American عدداً خاصّاً عنوانه: «البشر: لماذا نحن البشر لسنا كأيّ جنس آخر على وجه الأرض؟»؛ وقد صدر هذا العدد في شهر أيلول (سبتمبر) 2018 (المُجلّد 319، العدد 3). يقول أحد المقالات في مقدّمته «يعتقد معظمُ الناس على هذه الأرض عموماً، ومن دون أيّ سندٍ عِلميّ موثوق به، أنّ البشر مخلوقات خاصّة ومميَّزة عن الحيوانات الأخرى. ومن اللّافت أنّ أهمّ العُلماء القادرين على تقييم ذلك الاعتقاد يبدون في الغالب متحفّظين على الاعتراف بأنّ الجنس البشريّ جنس فريد. وربّما يعود ذلك إلى الخوف من دعم فكرة الاستثناء البشريّ الذي تطرحه العقائد الدينيّة. لكنّ المعطيات العِلميّة القويّة الحديثة من مَيادين علميّة مُختلفة من عِلم البيئة إلى عِلم النفس المعرفيّ تؤكِّد أنّ البشر هُم حقّاً جنسٌ متميّز».

توزَّعت صفحات هذا العدد الخاصّ على عددٍ من المقالات التي نقتصر على ذكر عناوين بعضها، ومنها: كيف أصبحنا نَوعاً مُختلفاً من الحيوان، تشفير لغز الوعي/ الإدراك البشري، ما الذي يجعل اللّغة أمراً مُميِّزاً للإنسان؟ البشر هُم بصدد تغيير مَسار التطوّر، لماذا ربّما نحن البشر نمثّل الحياة الذكيّة الوحيدة على هذا الكوكب؟

بالتوازي مع هذه المجلّة الصادرة باللّغة الإنكليزيّة نشرت مجلّة «Sciences Humaines» باللّغة الفرنسيّة، في عددها الصادر في كانون الأوّل (ديسمبر) 2018، ملفّاً خاصّاً عنوانه: «البشر: إعادة نظر تفكيرنا في أصولنا». يقدِّم هذا الملفّ أطروحات وفرضيّات جديدة حول ظهور العقل البشري المُختلف كثيراً عن نظيره لدى أبناء عمّه الأكثر قرباً منه، وهُم القردة الكبار. يعود ذلك في نهاية المَطاف إلى مسيرة تطوّر مُختلفة لدى الجنس البشري. تتكوّن هذه المسيرة من مرحلتَين:

1- كسب الإنسان رهان المشي على رجلَين ومخّ أكبر حجماً.

و2- ظهور اللّغة والأدوات المتنوّعة والفنّ والمَقابر. ففَهم هذه العمليّة المميَّزة للجنس البشري التي قادت إلى ميلاد العقل البشري يطرح اليوم رؤىً وآفاقاً جديدة بخصوص إعادة النظر في حركة مسيرة تطوّر الجنس البشري. وينطبق الشيء نفسه على الآليّات الفاعلة في هذا التطوّر (الاختيار الطبيعي والاختيار الاجتماعي والاختيار الثقافي) الذي تقع اليوم إعادة النَّظر فيه بالكامل. يأتي هذا الطرح الجديد لعوامل تطوّر مسيرة الجنس البشري مُخالِفاً للمُقارَبة الكلاسيكيّة لداروين القائلة إنّ الاختيار الطبيعي يفسِّر تطوّر الجنس البشري. يعمل ذلك الاختيار على تحاشي عوائق البيئة وضغوطها. أمّا في الرؤى الجديدة، فالجنس البشري يتطوّر، ليس من أجل التأقلم مع طبيعة البيئة ولكن لمصلحة البيئة غير الطبيعيّة التي صنعها الإنسان نفسه.

الإنسان ليس قرداً

كثُرت المساءلةُ أخيراً في الدوائر المعرفيّة الغربيّة لفكرة «أصل الإنسان قرد». فالمؤلِّف ألان بروشيانتيز Alain Prochiantiz ينكر هذه الفكرة، كما يعبّر عن ذلك عنوان كِتابه الصادر في العام 2019: «لماذا نحن/ البشر لسنا قروداً Pourquoi nous ne sommes pas des singes». كما نشرت مجلّة «Science et Vie» عدداً خاصّاً في شهر كانون الأوّل (ديسمبر) 2018 عنوانه «الإنسان لا ينحدر من القرد». ويتساءل ويجيب العالِم George G. Simpson في عنوان كِتابه «هل نحن قردة؟ لا نحن بشر» (2015).

مَربط الفَرق بين الحيوان والإنسان

تُردِّد الكِتابات المُعاصرة صفة التشابه بين الإنسان والحيوان أكثر من صفة القطيعة بينهما. نقتصر على ذكر مثالَين يبرزان الفَرق بين الاثنَين. فمن جهة، وجدت الباحثة جاين جودال Jane Goodal أنّ القردة الكبيرة (الشمبانزي) قادرة على صناعة بعض الأدوات لصَيد دودة الخشب. ومن جهة ثانية، لاحظَ بعض الباحثين اليابانيّين لعالَم الحيوانات أنّ القرد الآسيوي يعلِّم أولاده تقنيّات غسل البطاطس الحلوة. لكنّ هذه السلوكيّات البسيطة لبعض القردة لا تغيّر شيئاً من الحقيقة الكبرى الثابتة التي يُبرزها هذا العدد الخاصّ من المجلّة الأميركيّة.

تتمثّل هذه الحقيقة الكبرى في تميُّز الجنس البشري بما يسمّيه بعض المقالات في هذه المجلّة بالثورة المعرفيّة Cognitive Revolution أو ما نطلق عليه نحن منظومة البُعد الثالث للإنسان (اللّغة والفكر والمَعرفة والعِلم والدّين والأساطير والقوانين والقيَم والأعراف الثقافيّة). فبهذه المنظومة الثقافيّة يُعتبر الإنسان مخلوقاً فريداً على وجه الأرض قادراً على التحكُّم في غيره من الأجناس الحيّة وفي المخلوقات الجامدة في هذا العالَم. فانفراد الإنسان بتلك الميزات وبمشروعيّة السيادة على وجه الأرض مرتبط شديد الارتباط بمنظومة البُعد الثالث للإنسان؛ تلك الحقيقة الكبرى والثابتة التي يتميّز بها الجنس البشري عن سواه. وعليه، فمن وجهة هذا المنظور الفكري لا يجوز أن تخفي بعضُ أوجه الشبه بين الجنس البشري والأجناس الأخرى الحقيقةَ الكبرى المتمثّلة في أنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الثلاثيّ البُعد. وما لم يُصبح أيٌّ من الأجناس الأخرى مُنافساً حقّاً للجنس البشري في إدارة شؤون ما يجري على بساط الأرض وفي السماء، فإنّ الحقيقة الكبرى المتمثّلة في تميُّز الجنس البشري بمنظومة البُعد الثالث للإنسان تبقى مُحافِظة على صدقيّتها في أنّ الإنسان هو الذي ينفرد بالسيادة على الأرض بين كلّ المخلوقات.

اقتصار منهجيّة العلوم على المعطيات الكميّة

يعود تحاشي تلك العلوم التركيز على الثوابت الكبرى لدى الجنس البشري إلى المنهجيّة التي تتبنّاها والمبنيَّة على المُلاحظة والمؤشّرات الكميّة من دون الحرص على الأخذ بعَين الاعتبار المعطيات الكيفيّة، من جهة، وعدم وضع، من جهة ثانية، تفاصيل معطيات المنهجيّة الكميّة في إطار رؤية فكريّة معرفيّة تجمع بين شتات تلك المعطيات المُتناثرة فتعطيها تفسيراً ومن ثمّ معنى أوضح ومشروعيّة أكبر عند أهل الذكر. إنّ مواصفات الإنسان بأنّه كائن اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي في تصوّرات عُلماء الاقتصاد والاجتماع والسياسة المُعاصرين هي مواصفات للإنسان يصعب أن تكون حقائق إنسانيّة من دون أن يكون الإنسان في المقام الأوّل كائناً ثلاثيّ البُعد/ ثقافيّاً بالطبع. ففقدان الحقيقة الثقافيّة الكبرى في طبيعة الإنسان يعيق الفَهم والتفسير الأكثر صدقيّة. فهامشيّة الثقافة في الرؤية المَعرفيّة لعلوم الإنسان والمجتمع جعلت، على سبيل المثال، فِكر العالِم الروسي لاف فيغوتسكي Lev Vygotsky في كِتابه «الفكر واللّغة» غير مرحَّب به في الدوائر العِلميّة الغربيّة في تلك العلوم؛ إذ إنّ حضور العامل الثقافي في تفكير عِلم النَّفس بقي أمراً هامشيّاً جدّاً في الجزء الكبير من القرن العشرين. فمَعالِم الخلل في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة المُشار إلى البعض منها، تأتي أساساً من رؤيتها الايبستيمولوجيّة لطبيعة الإنسان. فهي تركِّز على الجوانب الماديّة المحسوسة من الإنسان. وتلك الرؤية المعرفيّة هي وليدة عوامل عرفتها الحضارة الغربيّة منذ عصر النهضة العِلميّة: صراع العُلماء مع الكنيسة أدّى إلى نفورهم من الدّين الأمر الذي جعلَ كلّاً من العلوم الطبيعيّة الدّارسة للظواهر الماديّة ونظريّة التطوّر لداروين تهتمّ بدراسة الجانب البيولوجي في الإنسان قبل الثقافي، كما رأينا.

اهتمامٌ صاعِد بالعوالِم الثقافيّة

هناك مؤشّرات عديدة اليوم في تلك العلوم لمصلحة إعطاء اهتمام أكبر لعنصر الثقافة في فهْم سلوكيّات الأفراد والظواهر الاجتماعيّة وتفسيرها. يأتي عِلم الاجتماع الثقافي في الصدارة. يَعتبر هذا الفرع الناشئ والصاعد في عِلم الاجتماع أنّ الثقافة هي متغيّر مستقلّ وليس بالتّابع. أي أنّها في صميم طبيعة الإنسان ومن ثمّ فهي الأساس في فهْم ما يجري في المجتمعات وسلوكيّات الأفراد وتفسيره. ويتّفق هذا مع مقولتنا في هذا المقال الداعية إلى أنّ الإنسان كائن ذو بُعدٍ ثالث/ ثقافي قبل أن يكون اقتصاديّاً أو سياسيّاً أو اجتماعيّاً. فالثقافة هي الحقيقة الكبرى الثابتة التي يتميّز بها الجنس البشري عن باقي الأجناس الأخرى. فهي الأصل لمَعالم حركة المجتمعات وتنوّع السلوكيّات الفرديّة والظواهر الاجتماعيّة. وهكذا، فالرؤية المعرفيّة الثقافيّة تستند إلى الحقائق الكبرى في فهمها وتفسيرها لسلوكيّات الناس وحركيّة المجتمعات والحضارات البشريّة في القديم والحديث.

ترشُّح نظريّة التطوّر للمُساءَلة

تفيد المعطيات الواردة أعلاه أنّ الصيغة الكلاسيكيّة لنظريّة التطوّر مرشَّحة بقوّة للتعديل وربّما للتغيير. كما ذكرنا، فالمجلّة الأميركيّة تعلن بصوتٍ عالٍ أنّ الجنس البشري ليس كمثله جنس آخر على وجه الأرض. أي أنّه جنس فريد بكلّ المقاييس التي استعملتها فروع العلوم الحديثة المتنوّعة والمتعدّدة في دراسة الإنسان.

أمّا المجلة الفرنسيّة فهي لا تتردّد في القول إنّ إعادة النظر في أصول الجنس البشري هي أمر جارٍ في العلوم المهتمّة بدراسة الإنسان. وتفصح عناوين الكُتب المذكورة جهرة أنّ القردة ليست أصلاً للجنس البشري. وهو توجُّه يدعو إلى إعادة النظر في صلب نظريّة التطوّر لدى داروين. هناك مشروعيّة كبيرة للقيام بذلك في الظروف الحاليّة لعلوم الإنسان والمجتمع التي بدأت تعطي الأبعاد الثقافيّة أهميّة متزايدة في فهْمها وتفسيرها سلوكيّات الأفراد وحركيّة المجتمعات والحضارات البشريّة. ومن ثمّ، فإعادة النظر تلك تعزِّز إشارتنا إلى أنّ منظومة البُعد الثالث للإنسان تمثِّل ما سمّيناه الحقيقة الكبرى في طبيعة الإنسان. وإذا تمّ كسب الرهان في «تثقيف» (إعطاء وزن ثقيل للثقافة في دراسة الإنسان) العلوم الطبيعيّة والاجتماعيّة في دراسة الجنس البشري، فإنّ ذلك يُمكن أن يُحدِث إطاراً ثوريّاً عِلميّاً (بردايم) بالمعنى الذي يعطيه العالِم الأميركيّ توماس كون لهذا المصطلح، أي قطيعة مع النموذج الإرشادي لما يسمّيه كون العِلم العادي Normal Science الذي جمَّع رصيداً مَعرفيّاً تراكميّاً ضخماً لمصلحة نظريّة التطوّر الكلاسيكيّة لداروين التي يتبنّى نموذجَها الإرشادي الكثيرُ من العُلماء من فروع العلوم الطبيعيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة المُختلفة على حدّ سواء.

تغيير في الرؤية المَعرفيّة للعلوم

ممّا لا شكّ فيه أنّ نهضة العلوم المُعاصرة انطلقت من منهجيّتها التي تعتمد على المعطيات الكميّة، لأنّ العلوم الطبيعيّة مثل الفيزياء والكيمياء والطبّ تستعمل عوامل ماديّة في إنشاء رصيدها العِلمي المفاهيمي والنظري لدراسة الظواهر التي تهتمّ تلك العلوم بالبحث فيها. لكنّ الأمور تغيّرت في العلوم الطبيعيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة في آخر القرن العشرين وبدايةً من مطلع هذا القرن، كما أشرنا. وهو تغيّر تسانده الرؤية المعرفيّة للإنسان في الحضارة العربيّة الإسلاميّة وعلومها الرائدة قبل العصور الحديثة. فالقرآن يَعتبر الإنسان كائناً متميّزاً عن كلّ الأجناس الأخرى، لذا أُسندت له الخلافة وحده «وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة». وعند ابن خلدون (في المقدّمة) ينفرد الإنسان عن بقيّة الأجناس بالفكر الذي هو عنصر بارز في البُعد الثالث للإنسان: «وذلك أنّ الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيّته من الحسّ والحركة والغذاء والكنّ وغير ذلك. وإنّما تميّز عنها بالفكر.... فهو مفكّر دائماً لا يفتر عن الفكر... وعن هذا الفكر تنشأ العلوم وما قدّمنا من الصنائع...». فموقف عُلماء اليوم الناقد لفكرة «أصل الإنسان قرد» وإبراز صاحب المقدّمة لتميُّز الإنسان عن الحيوانات بالفكر يُشكِّكان بقوّة في صدقيّة دراسات عِلم النفس الحديث، مثلاً، الذي جعل دراسة سلوك الفئران والحَمام ونتائجها أساساً لفهم سلوك الإنسان!!! ذلك الكائن الثلاثيّ الأبعاد في الصميم.



* عالِم اجتماع من تونس

بالتعاون مع (مؤسسة الفكر العربي) نشرة «أفق» بالتعاون مع «مؤسسة الفكر العربي» نشرة أفق

---------------

* كاتب من لبنان