لست أنا الذي أصنّف الشعر والشاعر، حين نقف على ديوان المير طارق ناصر الدين: (حُبٌّ وحُبّ: عالم الفكر - بيروت. 220ص. تقريبا)، بل الحب الذي جعله بطلا شعريا، وحمله هذا الحمل الثقيل، الذي أبت الجبال أن تحملنه، وحمله المير: طار به، إلى جميع موضوعات الشعر العربي: الإنساني والوطني والقومي والنسوي والإخواني. وحيث كان يحط، تتضوع الأنحاء والجنبات بعطر الحب، وبأريجه وبزينته، وبرعشات الروح والنفس، وخفقات القلب.
«أحبائي أنا في الحب دائي/ ولن أشفى فموتي في شفائي. ويوم يمرّ بدون حب/ أحس بأنه يوم إنتهائي».
لم يكن شاعر «حُبٌّ وحُبّ»، معنيا بأي شيء، إلا بالحب. لم يكن معنيا بالتاريخ، ولا بالحقيقة المطلقة، ولا بالحب الأنثوي وحده، دون سائر أنواع الحب، بل كان معنيا بالمتخيّل من كل شيء ومن كل شعر. يصنع عالما آخر، عالم الشاعر. يحمل قصيدته معه، على كم قميصه، أو في أعقاب سجائره. أو في أوراقه المنسية التالفة، من مجتمع إلى مجتمع، في وسط صناعة الشعر المعطّر بالحب. ذلك أنه ينظر إلى العالم بوصفه شعرا، بوصفه بطل حب، بطل شعر.
«كل الحب لدينا/ كل الشوق لدينا/ ماذا أنت لديك؟/ تختار جوار الله، هنيئا/ لكن لو أثقلت عليك/ وسألتك لم جئت بطيئا/ ورحلت سريعا وعليك/ آمال لو تلقى جبلا/ هدمته فلمَ أرهقت يديك/ وعيون الأمة شاخصة/ للفجر الطالع من عينيك».
وداخل ألعابه الشعرية، لا يظهر إلا الحب، متبدّيا للقارئ، بصورة خفية، أو بصورة علنية، على الرغم من صور الحياة المتنوعة التي يبدعها، وعلى الرغم من نمط العلاقات والقيم، والتشكيلات الإثنية والمعرفية والإرهاصات الأولية للتجليات الثورية المنقلبة على الواقع المرير.
«حملت كل حنيني كي أبادركم/ بادرتموني بحب دونه الكلم».
ولا عجب، فالمير طارق ناصر الدين، المثقف اليساري والشاعر والعاشق، وكذلك المثقف المديني، الذي تأثر باكرا بالفكر الثوري، عندما كان طالبا في كلية الحقوق، في الستينيات، هو في برهته الشعرية، يعمل من أجل تغيير إجتماعي ثوري، يخرج المجتمع من سكونيته ومن تخلّفه. إنه في حالة دائمة من المراجعة الذاتية، من خلال مونولوج داخلي، عبر توظيف «أنا الشاعر الغائب»، بحسب تعبير تودوروف.
«سلام أيها الوجه الجميل/ يزيد به الجمال دم نبيل».
ولأن شعر المير طارق، يمتلك كل الثراء التاريخي والروحي والديني/ الميثولوجي، نراه وقد تحوّل لدى قرائه، إلى رجل حب، إلى بطل حب، شاعرا، مختلفا. فيجعلنا نتعلق حد العشق، بالوطن وبالمدينة وبالقِيَم، لغرض الحفاظ على ما تبقّى لنا على أرض الوطن.
«جبل بشري وتهدّم/ قمر عربي أظلم/ قلم دخل إلى غفوته/ وأبى أن يتكلم».
يحرر الشاعر طارق ناصر الدين حبه -بطله الشعري- من قبضة الوقت. فقد يذهب الماضي والحاضر والمستقبل، ولكن الحب، يخطف كل ذلك ويزفّه زمنا أزليا في مواكب المعاني والصور، حيث يكتشف في الحب، أسرارا مقلقة ومقفلة، وأسئلة مهملة، وعطرا نسويا/ ذكوريا، تستبد به رائحة الياسمين. إذ الشعر عنده، يبوح بمكنونه في متسع للصفاء الفطري. كلما أدمنت نكهته، أقام لك على أنقاض فراغ المعنى، كونك الشعري.
«ومفردة الفصحى إنفردت بعشقها/ ففرض علينا أن يكرمك الشعر...
كان جمال الأرض سرا مخبأ/ فلما أتاها شاعر كشف السر».
لا يرفع الشاعر صاحب ديوان «حُبٌّ وحُبّ»، رأسه عن قصيدته، ليمج سيجارته، أو ليشرب من الكوب «شفة ماء»، حتى يجد بطله الشعري، يندلق على الورق، وقتا من المزاج الوردي، يجعلنا نستذوق جماله. فهو في كل هنيهة، في كل يوم في كل أسبوع، ينهي قصيدة، أو مقطعا، أو بابا من أبواب الحب. يحمله على ظهره، وفي نفسه فيض المعاندة الصارمة.
«والروح في الإسلام: عقل مجادل/ مرن وقلب مجاهد لا يهمد».
إلى أين يأخذه شغف الشاعر، بلعبة الألفاظ وبإيقاع الموسيقى وأجراس الكلمات، حين يصير ضيفا على المجرد، منغمسا في جدال السياسة والحب. وكيف يستبين الأشياء وأضدادها، وهو المتأمل دائما بين الأرواح وظلالها في الحب؟!
«مولاي قُمْ/ صوت النبي يرنّ قمْ/ بغدير خم/ سبقوا فَقُمْ/ شبعوا فَصُمْ/ أنت الإمام».
شاعر الصيرورة الدائمة. وكذلك شاعر السيرورة والكينونة والتغيير والوردة والحسرة والجمر والحب الجميل. كل يوم يذيق شعره الموت حتى تتقمص أبطاله، في جمال الوطن البديل، لكل هذا الشغب الرسمي القاتل لمعنى الوطن الحاضر. يتحدى كحي، كل أشكل الموت. بطله الحب، الذي يعلو على الزمان والمكان. يرسل صوته كسحابة تمطر حيث يشاء، ويبعث من كثافتها، الرغبة في التحول إلى مطر ينعش القلوب الظامئة للحب.
«وإن من أشعل الجمر الجميل بكم/ ما زال يشعل بي... إن الهوى قدر».
لا يمكن الحديث عن الشاعر المير طارق ناصر الدين، بلا تطرق للسياسة. هو الذي يلمح طغيانها على الواقع، في الشوارع وعلى أسوار الوطن، وفي كل زاوية من حياتنا. غير أن نقمته على تاريخه، وما فيه من عبودية، ومن فقر، ومن قهر، ومن جوع، لا يجعله يستسلم لقدره، بل نراه ينتفض مثل المارد، حتى لا يخسر وجهه وملامحه، وما يتصل به من رؤية خاصة للحياة وللتاريخ والتعاطف الخلاق مع أبناء أمته.
هي صنعة المير التي أتقنها. وحد بها شعره. جعل من « حُبّ وحبّ» وحدة الشعر، التي أضاعها الشعراء المحدثون، وأضاء شعلتها المير، وهو يغذ السير في البحث عن سحر الشعر، عن النبع المسحور، الذي يجيئه الشعراء بعيد السحر، ينامون على بابه، حتى يظفروا بسحر قليل، لا بسحر كثير، كما المير.
«القدس تسبى والجهاد يؤجر/ فاهنأ بكيدك أيها المستعمر».
يفلسف المير طارق بطله «الحب»، ويجعله يجوس أرض جميع المعارك التي يذهب إليها بمفرده لحلّها، على «الطريقة العمرية». وهو ينجح حتما، لأن من سياسة بطله الحب، الهروب من الموقف، وترك المكان للعطر.
«كأنك عطر العمر باركه الزهر/ فإن جف فيك الماء أنعشك العطر».
شاعر عريق، منفتح على الرياح، على الجهات، على أبواب التاريخ. يقلع من بحره، بأشرعة التنوع الثقافي، في منطقة، حلوق رجالها ضيقة، وحلومهم عظيمة وواسعة. يخرج من شق الضيق.. يصنع فرجة، يهرب منها إلى العالمية وإلى الأممية وإلى الإنسانية.. غير أنه لا ينسى أن يجعل من بطله «الحب»، بطلا حضريا، يشق جميع الدروب، إلى جميع النفوس. ويجعلهم يهزجون ويضحكون، حتى تصفق الأضلع له من شدة السرور بما يقول.
«ترويكا ودويكا وأويكا لم نعد بشرا/ فسادة القوم بالأرقام تشتغل».
جميع قصائد المير طارق، إنما هي تعبّر عن عمره، عن جيله، عن ناسه الذين ما نساهم في مسيرته، ولا نسوه هم في الطريق. هذه التفاعلية.. هذه الفاعلية الذاتية.. هي التي تفاجئ بطل شعره، الحب، فيجعله يزهو، أكثر مما يقل ويضؤل ويضعف.
«عيناك ما أحلى بريقهما/ أنا لست أبغي منك غيرهما».
الحب، بطلا شعريا، عند المير، ليس بطلا عابرا إستعاره من بنيات الطريق، بل هو بطل أصيل، على قدر المقام، وعلى قدر المهام. وكلما نزا أو غزا، كلما جاءه بالتيجان المرصعة، يضعها على رأسه بين جمهور شعره، وبين جمهور محبيه. وأما المير نفسه، فلا يجد فيها إلا تيجانا من الأشواك، ينحني لها ولا يأبه، ويتابع المسير.
«ألهمني حزن موروث أن أختبئ عل نافذة العمر المدحور/ كان الليل مليكا يذبح عصفورا بزجاج الكأس/ ويشرب من دمه المهدور».
في فضاء الشعر، يمثل المير طارق ناصر الدين نفسه. يتركها تظهر على سجيتها، كما تأتي له. ويشترط عليها قبول الدعابة والحب. فيعطيها صوتا لتعبّر عن نفسها. ويرسل وراءها رجل الحب، يحدثها، يحادثها، يغريها، يؤلبها، يراودها عن نفسها، بلا عنف ولا تعنيف، منطلقا من مشاعر الأبوة التي تفتح ذراعيها للجميع.
«أعلق قلبي على مشنقة العلم، فيشنق العلم قلبي ولكنه لا يموت».
المير طارق، رجل حب وحب. هو البطل، وهو القتيل.. يتحرك في فضاء الشعر وفي متونه، رجل حب حقيقي، ثم لا يلبث أن يختفي. يدعنا أمام مشاكلنا وأمام أوهامنا وأمام إهتماماتنا، نحل جميع عقد الحبال والأمراس التي جعلناها تلتف على أعناقنا. غير أنه يظهر في الخواتيم ينده علينا: ليس لكم من سبيل إلا الحب. لأن المير طارق، لمن لا يعرفه، ولو كان أدنى له، أقرب له: إنما هو رجل من عطر. هو رجل من حب.
«هل أعشقها أكثر منها/ لا املك مما يملكه العشاق/ ولكني/ أنفقت عليك ثلاثة أعمار/ ملأى ملأى ملأى/ لم أفرغ منها غير ملمح وجهي».
أستاذ في الجامعة اللبنانية