بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 تشرين الأول 2022 12:00ص طفلة الواجهة

حجم الخط
كنت إلى طاولتي في المقهى المعتاد، صباح هذا اليوم، أقلّب كل الصحف، كل الأوراق، كل العناوين، كل السطور، ثم ألتفت يمنة ويسرة، أمضغ كل شيء مثل محبرة، أبحث عن عنوان يفك مني عقدتي، يفك عني سحري، ويجعلني أرضى: أخرج من أزمتي في الكتابة، إلى فضاء الكتابة.
لم يكن الأمر سهلا. الكتابة تحت عنوان، ترضى عنه، يحتاج إلى إثارة مختلفة. كل العناوين السريعة أهملتني، جعلتني أشعر بالكآبة، بالعزلة، بعدم الإهتزاز. وهل تصح كتابة بلا شهقة، بلا نخرة، بلا نهزة، فلا تجعلك تهتز لعنوانها؟!
فجأة ظهرت طفلة الناطور، ذات السنوات الخمس، وجدت في جميع الواجهات مرايا لها، تحركت أمامها، فتحركت الواجهات طربا لها. تحركت مراياها، حركتها المرايا شغفا بنفسها، خالطتها تيها، خالطتها زهوا، خالطتها رقصا وإيقاعا، خالطتها فرحا.. فاستعانت بذاكرة شاشة القبو. أخذت تستعيد الرقصات، التي شاهدتها، الرقصات التي غفت عليها، بدت تستعيد من المرايا إيقاعها، بدت تستعيد من الواجهات جمالها.. وكلما تسارعت في رقصتها، مالت الواجهات عليها، بجميع الفساتين الصغيرة، بجميع الفساتين الكبيرة التي خبأتها، بجميع الشالات، بجميع العرائس والدمى، التي ارتدتها.
طفلة الناطور، ذات الخمس، إلى جانبي على المسرح، باحة مترو المدينة، جعلتني أنتبه لها. تابعتها وأنا منغمس بين أغمار الصحف اليومية التي أقلّبها على عجل، قبل أن تفلّني.. قبل أن أفلّها.. قبل أن تقتلني بأخبارها.
أطفال المجزرة الـ35، في تايلاند هذا الصباح، في صورة مرعبة على أرض ملعبهم في المدرسة، وطفلة الناطور، إبنة الخمس، تراقص المرايا، أمامي، في باحة مترو المدينة: اشتعلت ثيابي فجأة. كانت النار تشوي مني الحلق.. تذكّرت بيت الشاعر:
«يبكي ويضحك، لا حزنا ولا فرحا/ كعاشق، خطّ سطرا في الهوى ومحا».
صغيرة الواجهات الراقصة، صغيرة المرايا المختبئة، صغيرة الأحلام، صغيرة الباحة الراقصة، أمام مترو المدينة في شارع الحمرا، قبالة نزلة السارولا، خرجت صبيحة يوم العطلة المدرسية، من قبو أهلها، تراقص ما شاهدته في الواجهات من ظلها، مع شمس الصباح، في باحة مترو المدينة الذي خلا لها.
خطفتني الصغيرة وهي ترمقني وحيدا إلى طاولتي، قبالة دفاتر اعتادت عليها، تتمايل، تهتز، توقع طفولتها على دفتر الرسم في مرايا الواجهة.
كنت أقابل بين صورتين: أطفال المجزرة على الأرض، في تايلاند، بإيقاع الجريمة، والطفلة الوعد، بإيقاعها، لا تغيب عن المسرح. تقول لي: دم أطفال تايلاند الذي سال على الأرض البارحة، وصل بريده إليّ، وحرّكني كي تستمر الطفولة هذا الصباح، في ألعابها. فنهضت أرقص هنا، حتى لا ننسى هناك.. حتى تستمر الـ «هناك»، هنا.
وحدها الطفولة سبحة تأنس الحبة بها، تحيي على البُعد أنس الحب، أنس العشق، أنس الطفولة القتيلة. تنهض أمام عيني هذا الصباح، على باحة مترو المدينة تمحو بضحكتها شاشة الدم، وتجعلها شاشة ضاحكة.
شقي تايلاند، أغبى منه أشقياء بلادي، يسفحون دم مدرّسة، دم شابة مدرّسة، دم أطفال مدرسة، بلا مدرسة.. أغلقت في وجوههم المدرسة.
احتلت البارحة، المدرّسة الشابة نسرين قلبي، حين خرجت من الشاشة وصاحت بأعلى صوتها: أوقفوا مجزرة أطفال يريدون العودة إلى المدرسة.. يريدون الذهاب إلى المدرسة.. يريدون باب مدرسة وملعبها. فلا تسرقوا الأعمار حين تسرقون راتبي، رواتب زملائي، ومال المدرسة.
شقي تايلاند، مثله شقي الوزارة، كلاهما شق لآخر، يبحث عن مجزرة. وحدها إبنة الناطور، تخرج من قبو أهلها في يوم العطلة المدرسية، تراقص الغزالة، على واجهات المحال، في باحة مترو المدينة، تراقصني في المرايا، تمحو بضحكتها حزن صباحات مدينة سفحتني على الأرض، سفحت محابر أطفال، سفحت دموعهم، سفحت منهم الدم والأمل.
طفلة الناطور التي راقصتني هذا الصباح، في واجهات المرايا، جعلتني أنهض، ألتقط دمي، وأخرج من عزلتي، وأفك من عقدتي، وأكتب ثم أكتب ولا أكتب غير هذي الكتابة:
يبكي ويضحك لا حزنا ولا فرحا/ كعاشق خطّ سطرا في الهوى ومحا.

أستاذ في الجامعة اللبنانية