بيروت - لبنان

اخر الأخبار

10 حزيران 2020 12:00ص عفيف دمشقية (الحلقة الأولى) عاشق الإثنين: اللُّغة العربيَّة والحياة

د. عفيف دمشقية د. عفيف دمشقية
حجم الخط
نَشَأَ، مُنْذُ نُعومَةِ أظافِرِهِ، عصاميَّاً؛ وخَطّ طريقَهُ في ساحاتِ المعرِفَةِ والتّربيةِ والتّعليمِ ومجالاتِ التَّبحُّرِ في اللِّسان العَرَبيِّ وبيانه بِما بَزَّ فِيهِ كِبارَاً مِنْ أَرْبَابِ التَّرْبِيَةِ والتَّعلِيمِ وعُلومِ اللُّغَةِ؛ حَتَّى غَدا فِي هَذهِ الحُقُولِ مَرجعاً وعًلَماً.

هو الدكتور عَفيف دِمَشْقِيَّة، الذي وُلِدَ في مدينة «بيروت» سنة 1931؛ ابناً لصحافيِّ وناشطٍ ثقافيٍّ وكاتبٍ وشاعرٍ وإذاعيٍّ بيروتيٍّ لامعٍ، هو الأستاذ أحمد دِمَشْقِيَّة؛ الذي عُرِفَ بِوَعْيِهِ العُروبِيِّ والوطنيِّ، عَبْرَ منظوماتٍ ومقالاتٍ عديدةٍ، منها ما نشره في صحيفةٍ كان يُصدرها باسم «وفاء العرب». والدكتور عفيف دمشقيَّة، هو، عَيْنُهُ، الأستاذ الجامِعيِّ الفَذ، والباحِثُ اللّغويُّ العَلَم، الذي وافته المَنِيَّةُ الصَّاعِقَةُ، سنة 1996؛ آنَ كانَ في ذُرْوَةِ نُضْجِهِ المَعْرِفِيِّ وقمَّةِ عطائهِ الأكَّادِيميّ!

يَوْمَ التحقتُ، سنة 1980، أستاذاً للنَّقد الأدبي والأدب المقارن، في «كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّةِ» في «الجامعة اللُّبنانيَّة»، كان الدكتور عفيف دمشقيَّة من أوَّل الأساتذة الذين تعرَّفت إليهم، وكان الزَّميل الأوَّل الذي شرَّفني وزوجي بدعوتنا إلى عشاء في منزله. وكانت سهرةً من العُمرِ، بالنِّسبة لي، تعرَّفتُ فيها على زميل استمرَّت صداقتي معه، إلى حين كان عليه أن يغادر هذه الحياة؛ وكانت صداقة احترام ومحبَّة ومودَّة، ستبقى في وعيي ووجداني، إلى أن أعود وألتقي بهِ، حيثُ يأملُ كِلانا بِلِقاء.

عاش عفيف دمشقيَّة، منذ يناعة طفولته، وحتَّى وفاته الصَّاعقة سنة 1996، حياة ما عرفت سوى العصاميَّة وحريَّة الرَّأي وعمق التَّفكير وصدق الطَّويَّة والاندفاع الجميل في حب الحياة. اكتسب معارفه وعلومه، منذ المرحلة الابتدائيَّة، وحتَّى تخرُّجه بشهادة الدكتوراه من جامعة السوربون، وبجهده الشَّخصيِّ وكدِّه المعرفيِّ؛ عبر معاناته اليوميَّة مع لقمة العيش، وصراعه العقائدي ضدَّ التَّسلُّط والظُّلم والاستعمار والإمبرياليَّة، وتمسُّكه الدَائم بالكرامة والعِزَّة وشرف الانتماء إلى ما يؤمن به. 

بدأ، عفيف دمشقيَّة، رحلته مع التَّدريس أستاذاً في «مدرسة عثمان ذي النُّورين» لـ «جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت»، في منتصف ستِّينات القرن العشرين؛ فبرع في التَّعليم، كما كان من بين الأكثر نجاحاً في كسب ثقة التَّلاميذ ومحبَّتهم وشغفهم بما كان يشرحه لهم من قواعد اللُّغة العربيَّة وجمالاتها. والتحق، «الأستاذ عفيف»، خلال هذه المرحلة من حياتهِ، بـ «كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة» في «الجامعة اللُّبنانيَّة»؛ طالباً في «قسم اللُّغة العربيَّة وآدابها»؛ فتخرَّج فيها سنة 1969، بشهادة «الإجازة التَّعليميَّة» في اختصاص اللغة العربيَّة وآدابها، وسنة 1970، بشهادة «الماجستير»، في العلوم اللغويَّة؛ ثمَّ كان له أن يتابع دراساته العُليا في فرنسا؛ فالتحق بـ «جامعة السُّوربون»، ليتخرَّج فيها، سنة 1972، بشهادة «الدكتوراه» في العلوم اللُّغويَّة والبلاغيَّة؛ وليلتحق، تالياً، بـ «الجامعة اللُّبنانيَّة»، أستاذاً للعلوم اللُّغويَّة في «كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة».

أمضى الدكتور عفيف دمشقيَّة زهاء ربع قرنٍ من الزَّمَنِ أستاذاً للعلوم اللُّغويَّة في «كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّةِ» في «الجامعة اللُّبنانيَّة»؛ وكان له أن يزامل، من أساتذة العلوم اللّغويَّة فيها، الكبيرين الشَّيخ عبد الله العلايلي والدكتور الشَّيخ صُبحي الصَّالح؛ مع نخبةٍ من أساتذة العربيَّة الزَّائرين، من الجامعات العربيَّة. ولم يكن «الدكتور عفيف»، في كلِّ هذا، إلاَّ المتربِّع سعيداً على عرش ثقة زملائه العلماء اللّغويين بعِلمِه، وإعجاب سائر الأساتذة والمحاضرين بحضوره الاجتماعيِّ المحبَّبِ ورُقِيِّه الثَّقافيِّ الواسِعِ وموضوعيَّته الأكَّاديميَّة الدَّقيقة، فضلاً عن التزامهِ الوطنيِّ الصَّريحِ إلى الفِكرِ اليساريِّ. لم يقف الأمر عند هذا الحدِّ، على الإطلاق؛ بل إنَّ الدكتور عفيف دمشقيَّة ظلَّ، منذ أن التحق بالهيئة الأكَّاديميَّة في الجامعة، حبيب الطلاَّب؛ على مختلف توجُّهاتهم الثَّقافية وانتماءات بعضهم السَّياسيَّة وتنوُّعات أصولهم المناطقيَّة والاجتماعيَّة. حاز ثقة كلّ من تعامل معه؛ وما كان تعامل «الدكتور عفيف»، مع كلِّ أمر، إلاَّ بالوضوح والصِّدق والمباشرة والسَّعي إلى الخير. ولقد عرفتُ، في الدكتور عفيف دمشقيَّة، عَيرَ تشرُّفي بزمالته في «الجامعة اللُّبنانيَّة»، وتالياً سعادتي بصداقته، مُحِبَّ حياةٍ بأسلوبه الخاص؛ أمَّا قِوامُ هذا الأسلوب، فصفاءُ الشُّعور الإنسانيِّ، وعُمْقُ الغَوْصِ في الدِّفاعِ عن جَوْهرِ كلِّ ما هو حقٌّ لكلِّ إنسانٍ في العَيْشِ الكريم، يرافق هذا جميعه نَهَمٌ لا حدودَ له في البَذْلِ والعَطاءِ، مع هَوىً لاسْتِمْتاعٍ أَنِيقٍ بالموسيقى وسائرِ الفنونِ الجميلةِ، وجموحٌ مُسْتَحْكِم، صارَ في النِّهاية قاتلاً، إلى التَّدخين.

انتسب الدكتور عفيف دمشقيَّة إلى «اتِّحاد الكُتَّاب اللُّبنانيين»، وكان من النُّخبة النَّاشطة في «الإتِّحاد» لسنواتٍ عديدة؛ وهو من دعاني إلى تقديم أوَّل محاضرة لي من على منبر الإتِّحاد سنة 1984. وكان للإتِّحاد أن يسعد، يوماً، أن يكون الدكتور عفيف دمشقيَّة أميناً عامَّاً له؛ بكلِّ ما يعنيه «الدكتور دمشقيَّة» من عُمْقِ فِكْرٍ وحُرِيَّةِ رأيٍ وإخْلاصٍ وَطَنِيٍّ ووَعْيٍّ سياسيٍّ والتزامٍ بقضايا الكُتَّابِ وسَعْيٍّ حثيثٍ إلى تأمينِ حلولٍ لما يمكن من مشاكلِ عيشهِم وتحصيلِ حقوقِهم.

لم يكن عفيف دمشقيَّة إنساناً عاديَّاً على الإطلاق؛ بل كان ينمازُ بألف وَشْمٍ ووَشْمٍ. لم يكن نهجه في العيش نهجاً تقليديَّاً؛ كما لم يكن فهمه للحياة ذلك الفهم الذي يستطيعه كثيرٌ من النَّاس إدراكَ سموِّ رحابته، وإن كانوا يستسيغونه. ولهذا فإنّ عفيف دمشقيَّة كان فذاً في وجوده الإنسانيِّ، ورائعاً في معاناته لهذا الوجود.

يوم تفتّح قلب بيروت عنه، احتضنه قلب والده الصَّحافيّ أحمد دمشقيَّة؛ فقبس من أبيه حبَّ الحياة. ويوم فتحت مدرسة «جمعية المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت» باباً لها، تستقبله منهُ تلميذاً يتعلّم في رحابها، عانقته اللًّغة العربيةُ، ميزةَ وجودٍ ومصيرٍ؛ فعرف كيفَ تكون اللُّغة فِعْلَ حياةٍ ونهج عيش، كما هي منطلق تفكيرٍ ووسيلة تعبير. ولذا، أصرّ، «عفيف دمشقيَّة» على أن يكون في عَيْشِهِ عاشقَ حياةٍ ومُغْرَمَ لُغَةٍ، في آن واحِد؛ ولَمْ يَكُن له أنْ يحقّق هذا الكيان، إلا بوجوده في الحياة مُمارساً للتّعليم، بل مُعَلّماً للُّغة العربيَّة، ومناضلاً فذَّاً على دروبِ الحريَّةِ وفي ساحاتها. وما برح كثيرون من طلاَّبه يروونَ، بشغفٍ أخَّاذ، كيف كان «عفيف دمشقيَّة» يسهرُ معهم اللَّيالي، سنة 1982، عند متاريس مواجهةِ الغَصْبِ الصُّهيونيِّ المُجرِمِ لِسَيِّدةِ العواصِمِ العربيَّةِ «بيروت»؛ في منطقةِ «رأس النَّبع». وما انفكَّ كثيرٌ من هؤلاء الطلاَّب المناضلين، يَحْكونَ بغبطة جَذِلَةٍ كيف كانت تَتَحَوَّلُ «سَهْرَةُ المِتْراسِ مَع الدَّكتور»، كما يَحلو لَهُم تسميتُها، إلى ندوةِ ثقافةٍ وعِلْمٍ وسياسةٍ ونضالٍ وإنشادٍ حماسيٍّ لأغاني الحريَّة والكرامة.

كان الدكتور عفيف دمشقيَّة، غزير العِلم، واثقاً من معارفه، وضليعاً في تسويغ ما يذهب إليهِ من آراء واجتهادات؛ غير أنَّه لم يكن يوماً إلاَّ شديد التَّواضع مع مُحدِّثه. لَمْ يَركَبْ الغرور، عفيف دمشقيَّة، ولو لثانيةٍ واحدةٍ في حياته؛ ولَمْ تَسْتَهْوِهِهِ الكِبرياءُ الفارِغَة، كما لَمْ يَتَمَلَّكَهُ، أبداً، ذلكَ التَّعَاظُمُ الوَخِمُ الذي كانَ يَعيشُهً بَعضُ مُثقَّفي تِلْكَ المرحلة. ومِن جهةٍ أخرى، فَلَمْ يَدْفَعْ بالدكتور عفيف دمشقيَّة، تَمَكُّنًهُ مِنَ المعرفةِ، إلى ذلكَ التَّشاوُفِ الفارغِ الذي طالما مَسَّ بِشرارتِهِ، القَبيحَةِ والسَّمِجَةِ والمَكْذوبَةِ، بعضَ غَليظِي الطِّباع مِنَ السُّمَجاءِ العامِلِينَ في الشَّأنِ الأكَّادِيمِيَّ ومجالاتِ الفِكْرِ والثَّقافةِ.

يشهدُ التَّاريخُ أنَّ الدكتور عفيف دمشقيَّة كان أحد كِبارِ أساتذة علوم الُّلغة العربيَّة؛ إذ تولَّى تدريس هذه العلوم في عددٍ من الجامعات العربيَّة، كما درَّسها في «الجامعة اللًّبنانيَّة». ولقد وضعَ «الدكتور دمشقيَّة»، في اختصاصه هذا، عديداً من الكُتب والدِّراسات؛ التي ما بَرِحَت تُعْتَبَرُ، مِنْ قِبَلِ الباحثين، مراجعَ في مجالاتها. لعلَّ مِن أشهرِ أعماله، ههنا، «تَجديدُ النَّحوِ العَرَبِيّ»، 1976، و«خَواطِرَ مُتَعَثِّرَةٍ عَلى طَريقِ تَجْدِيدِ النَّحْوِ العَرَبِيّ»، 1981، فضلاً عن «الانْفِعالِيَّةِ والابْلاغِيَّةِ فِي بَعْضِ أَقاصِيصِ مِيخَائِيل نعَيْمَة»، 1979، و«المُنْطَلقاتِ التَّأسِيسِيَّةِ وَالفَنِّيَّةِ إِلى النَّحْوِ العَرَبِيّ»، 1978، و«أَثَرُ القِراءاتِ القُرآنِيَّةِ فِي تَطَوُّرِ الدَّرْسِ النَّحويّ»، 1978، و«لُغَتُنا»، 1990. يُضاف إلى كُلِّ هذا، أنَّ الدكتور عفيف دمشقيَّة أحد سادة المُعَرِّبين مِن اللُّغةِ الفرنسِيَّةِ إلى اللُّغةِ العربيَّةِ؛ وقد أشتُهر لَهُ تعريبُهُ لِعديدٍ من المؤلَّفات الفرنسيَّة، لعلَّ كثيراً مِن رِواياتِ الكاتِب الفرنكوفوني «أمين المعلوف»، تَقِفُ بين أبرَزِها؛ ومِن هذه التَّعريبات «لِيُون الأفريقي»،1997، و«الحُروب الصَّليبيَّة كما رآها العرب»، 1998، و«سَمَرْقَنْد»، 1991؛ فضلاً عن مُعَرَّبات لأعمالِ آخرينَ؛ منهم «إنسانيَّة الإسلام» لـمارسيل بوازار، 1980، و«قصة مدينة الحجر» لإسماعيل كاداريه، 1989، و«خفة الكائن التي لا تحتمل» لميلان كونديرا، 1991، و«الوحش» لإسماعيل كاداريه، 1992.

--------------------

 رئيس المركز الثقافي الإسلامي