بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 حزيران 2020 12:00ص عفيف دمشقية (الحلقة الثَّانية) عاشق الإثنتين: اللُّغة العربيَّة والحياة

د. عفيف دمشقية د. عفيف دمشقية
حجم الخط
أرى أنَّ «عفيف دمشقيَّة» الإنسان، هو عَيْنُهً «عفيف دمشقيَّة» اللّغوي، إِذْ يتساوى إِقبالُهُ على اللُّغة وشُؤونِها، وَيَتوازى مَع إِقبالِهِ على الحَيَاةِ وعَيْشِها؛ بانْفِتاحٍ رُؤيَوِيٍّ وفَلْسَفِيٍّ عَمِيقٍ، احْتَرَمَ الجَوْهَرَ، وَتَرَكَ لِنَفْسِهِ تَكْييفَ فَرَحِها بِمُعايَنَةِ الحاضِرِ ومُعاناتِهِ.

لَعَلَّ تبنِّي «عفيف دمشقيَّة» لِرأيٍ ورؤيةٍ وتَوَجُّهٍ، في مقال له عنوانه «استجابةُ اللُّغةِ العربيَّةِ لتحوُّلاتِ العصرِ»، نٌشِرَ في العدد 34 من مجلة «الآداب» سنة 1986، لا يُصَوِّرُ مُجَرَّدَ منهجِهِ في التَّعامل مع اللُّغة؛ بل يُضِيءُ، كذلك، على مبدأ شديدِ الأهمِيَّةِ وبَهِيِّ الحُضُورِ في حياةِ «عفيف دِمَشْقِيَّة»؛ ولعلَّ في هذا ما قد يُبَيِّنُ فلسفةً أساساً له،ُ تَبَنَّاها في تَعامُلِهِ مع الحياةِ عامَّةً ومع العَيْشِ في رِحابها خاصَّةً.

يَذْكُرُ الدكتور عفيف دمشقيَّة «إنَّ اللُّغة، - أيَّة لغة - هي ’فكرُ الأمَّة»؛ لأنَّ فيها «ما ورائيَّةً، خفيَّةً تُحدِّد فِكر النَّاطقين والقارئين والكاتبين بها، وتُوَجِّهَهُ وترسم له قدره. ولا غَرْوَ، فهي ليست مجرَّد نظامٍ لسانيٍّ مهمَّته تجسيدُ الأفكارِ والآراءِ، بل هي نظامٌ لصقلِ تلكَ الأفكارِ والآراءِ، ومنهجٌ لإرشادِ نشاطِ الفردِ الذِّهنِّيِّ وتحليلِ انطباعاتِهِ، وتوليفِ ما في أعماقِ ذاتِهِ». ويَذْكُرُ، الدكتور دمشقيَّة، في هذا المقال، «أنَّ أهميَّة اللُّغة وخطورتها أكثر ما تبدوان في:

- إنَّها نظام متكامل؛ تستخدمه جماعة معيَّنة من البشر للتَّفاهم والتَّواصل.

- إنَّها مجموعة من «الرُّموز» يتَّحد فيها المدرك العقلي بالصُّورة الصَّوتية، فيؤلِّفان وحدة تامة.

- إنَّها إرث جماعي، أو بالحري، ملك خاصٌّ لكلِّ فرد من أفراد الجماعة، وملك مشترك بين جميع الأفراد في الوقت عينه.

ويتابع، الدكتور عفيف دمشقيَّة، في المقال عينه، عرض مفهوم يتبنَّاه للُّغة، فيقول «لعلَّنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنَّ سلفنا الصَّالح كان أرحب منَّا أفقاً في هذا المضمار، لأنَّه لم يشعر في مواجهة ما استجدَّ من أمور خلال مسيرته الحضاريَّة بأيِّ قصور أو دونية؛ بل راح يحطِّم العقباتِ التي تحول بينه وبين الانخراط في الحضارة العالميَّة، القائمة يومذاك؛ ليخلص، بعد ذاك، إلى الاسهام فيها ونشرِها في أربعة أقطار المعمور. ولا غَرْوَ، فقد كان رائدهم إلى ذلك أن «الاجتهاد» هو طريقهم الأوحد إلى أن يكونوا أمَّة جديرة بمكانتها على هذه البسيطة؛ وعلينا، نحن اليوم، بدل البحث عمَّا إذا كانت لغتنا قابلة أو غير قابلة للاستجابة لتحوُّلات العصر، أن ننبذ، كما نبذوا، كلَّ شعورٍ بالدُّونيَّة وأن ندرك أنَّ طريقنا الأوحد إلى اللّحاق بركب الحضارة العالميَّة القائمة اليوم، لنصبح فيها فاعلين وأسياداً، لا مستهلكين وأذناباً، هو بفتح باب الاجتهاد في لغتنا على مصراعيه؛ بدل الوقوف أمامها بين نادبٍ ومتفجِّعٍ وصائحِ «ليس هذا عربيَّاً، ولم يقل بذلك فلان من النُّحاة، ولم يُجز ذاك أهل اللُّغة»، إلى آخر الأسطوانة المجرَّحة التي تتعثَّر فوقها الابرةُ مردِّدة نفس الكلام آلاف المرَّات، بينما اسطوانة الكون في سباق مفتوح مع الزمن، وإبرة الحضارة تأتي كل يوم بجديد».

ومَنْ يُتابع مسارات حياةِ عفيف دمشقيَّة بِدِقَّةٍ؛ ويتَعَمُّقَ في استعراضِ كيفيَّاتِ تفاعلِهِ مع هذهِ المساراتِ، سيجِد، في سطوعٍ إِنْكِشَافِيٍّ شديدِ الوَضَاءَةِ والبهاءِ والجمالِ، كيف أنَّ «عفيف دمشقيَّة» اللّغويَّ، هو عينهُ «عفيف دمشقيَّة» الإنسان. ما انفكَّ، عفيف دمشقيَّة، طيلة ما عاشه من سنين وواجهه من أحداث، يعملُ على فتحِ بابِ الاجتهادِ، في شؤون الحياةِ، على مِصراعَيْهِ؛ ولم يكن لهُ أن يَقِفَ، ولو لحظةٍ واحِدَةٍ، أمامَ الحياةِ نادِباً أو مُتَفَجِّعاً؛ بل دَأَبَ على خوضِ السِّباق المفتوحِ مع الزَّمنِ، متفاعِلاً، وفاقاً لما كان يراهُ فيهِ، مع كلِّ جديدٍ.

كان للدكتور عفيف دمشقيَّة، في علاقته باللُّغة العربيَّة حضورٌ، تعليميُّ وتربويُّ وشخصيٌّ، ترك بصماته الواضحة والمميّزة على صاحبه؛ كما ترك معرفةً وعلماً واقتناعاً ومحبَّةً على كلِّ من تعامل معهم الدكتور عفيف دمشقيَّة، في هذا المجال. فعفيف دمشقية لم يدخل دنيا اللُّغة إلاَّ من باب عشق الحياة، ولم يعشق الحياة إلاَّ فِعْلَ إبداعٍ للُّغة.

كانت «مدرسة عثمان ذي النُّورين»، في ستِّينات القرن العشرين، الميدان الأول الذي يصول فيه الشَّاب عفيف دمشقيَّة، المتفجِّر حيويَّة ولهفة عطاء. ومع أولئك الصّغار، من تلاميذ المدرسة في مرحلة الدِّراسة الابتدائيَّة، جعل عفيف دمشقية هدفه الأكبر أن تكون اللُّغة العربيَّة الفصحى والسَّليمة كَرّةَ حَسّونٍ أو تغريده كنارٍ، يُعَبّر بها التَّلاميذ عن خلجات نفوسهم وما تسعى أذهانهم إلى ابتداعه أو تصويره من أفكار. فاللُّغة، عند عفيف، حياةٌ؛ ولا يمكن للحياةِ أن تكون صحيحةً إلاَّ بِلُغَةٍ سَليمة.

كَمْ انْكَبَّ «الأستاذ عفيف» على دفاترِ الفُروضِ المدرسيَّة لتلاميذِهِ والأبحاث الجامِعِيَّةِ لطُلاَّبِهِ؛ يُصّوب، بصرامةِ المعلِّمِ الحَذِقِ، ما فيها مِن أخطاء لغةٍ وهفواتِ تعبيرٍ وتقلقلِ رأيٍّ أو ضُعْفِ استنتاجٍ؛ ويُشيرُ بِرُفْقِ المربِّي الحنون، بقلمِهِ ذي اللَّونِ الأحمر، إلى كل هذا؛ هادِياً إلى صواب وناصِحاً بمراجعةِ أخرى للعملِ. ولا أخالُ إلاَّ أنَّ دفاتر مدرسيَّةٍ عديدةٍ، أكلَ الزَّمن كثيراً من لون غلافاتها الكحليَّة، التي كانت معتمدةً زمنذاك، ما برحت قابعةً في صناديق أصحابها، ممَّن كانوا تلاميذ صفوف «الأستاذ عفيف» في تلك المرحلة؛ ومِثْلُها أوراقُ بحوثٍ جامعيَّةٍ كثيرةٍ، ما أنفكَّت محفوظةً بِعِزَّةٍ لدى طلاَّب عملوا بإشرافه؛ ولعلَّ في كثيرٍ من الدَّوائر الحمراء المرسومة بحدَّة حول الأخطاء أو الهفوات المنتشرة بين صفحات هذه البحوث وتلك الدَّفاتر، سيبقى يشهدُ، أبداً، للمُرَبِّي الجميلِ، ما كان فيهِ مِن صرامةِ المعلِّم في متابعة تلاميذه وطلاَّبِهِ؛ أما ما فيها من التَّصويبات المشفوعة، أبداً، بعبارات التَّشجيع، فتؤكّد حَدْبَ ذلكَ المُعلِّم المِثال، على أولئك المتعلِّمين ورعايتهم لهم.

المعرفةُ فعلُ تعليمٍ وتربيةٍ معاً؛ ولا يمكن للتَّعليم أن يكون ناجحاً إلاَ بالتَّربية؛ ومن أبرز شروط نجاح التَّربية أن تكون فعل حبٍّ؛ وما من حبٍّ أشدَّ فاعليةً وعطاءً مثل حبِّ الحياة. وعفيف دمشقية مارس مع تلاميذه في «مدرسة عثمان ذي النُّورين»، كما مع طلاَّبه في «الجامعة اللُّبنانيَّةِ»، كلَّ هذا.

وكان لظروف الحياة أن تضغط على عفيف دمشقية، فيسافر إلى «الكويت»، مُرَبِّياً يُعَلّمُ اللُّغةَ العربيَّة؛ ويكون لبعض الكويتيين فرحُ العيشِ وسعادته في كَنَفِ فَهمِ «الأستاذ عفيف» للحياة واللُّغة. ولا يهدأ عفيف دمشقية؛ فما أن يحصل على «الإجازة التَّعليميَّة» في اللُّغة العربيَّة وآدابها من «الجامعة اللُّبنانيَّة»، ومن بعدِها «شهادة الماجستير» في العلومِ اللُّغويَّةِ، من الجامعةِ عينِها، حتَّى يغادر إلى «السوربون»؛ باحثاً في اللُّغة العربيَّة وآدابها، ومُحَصِّلاً لدرجة الدكتوراه فيها.

كان «عفيف» يعيشُ، في كلِّ هذا، وجودَهُ فعلَ كفاحٍ وصراعٍ. عاندته الحياةُ كثيراً، وأوجعته حتَّى ثمالةِ ما في الوجعِ من آلام. جرَّحتهُ الدُّنيا وأَدْمَتْه، غير أنَّها لم تتمكَّن قَطْ من كسره؛ فلطالما انتصر على عنادها، وتغلّب على أوجاعها، وبلسم جراحه منها ومسح عن تلك الجراح الدِّماء النَّازفة؛ بحبِّه للحياة، بل بعشقه الأخّاذ لها.

يعودُ عفيف دمشقيَّة، في منتصف سبعينات القرن العشرين، إلى لبنان؛ يثوبُ، فرحاً بآمال له وأحلامٍ رسمها، إلى جوهرةِ لبنان الرَّائعة «بيروت»؛ فإذا به فيها أستاذاً جامعيَّاً تمكّن منه العِشقان حتى أقصى ما في الولَهِ من آفاق: عِشْقُ الحياةِ وعِشْقُ اللُّغةِ. يملأ عفيف دمشقيَّة، الدُّنيا بضحكته المجلجلة الكَلِفَةِ بفرحِ الحياةِ واستكناه أسرارها؛ وتبقى سَبَّابَتُهُ تُشيرُ، بصرامةٍ وقوَّةٍ، لكن بِحُبٍّ ورعايةٍ حنون، «أن لا» في وجه كلِّ من يرتكب خطأً بِحَقِّ اللُّغةِ العربيَّة. ولا يترك عفيف دمشقية رِحاب «جمعيَّةِ المقاصد الخيريَّةِ الإسلاميَّةِ في بيروت»؛ بل يَمُدّ يَدَهُ مُشاركاً في فاعليَّة عالمِها التَّربويِّ؛ فيَعْضُد أساتذتها، ويُساهم في الإشرافِ على المسارين التَّعليميِّ والتَّربويِّ فيها؛ كما يَسقي عطاشها، مِن فَيْضِ عِشقه للُّغةِ العربيَّة، ما يَروي بهِ ظمأهم إلى حياةٍ رائعةٍ.

ويوم قررت «مديريَّة التَّعليم» في «جمعيَّة المقاصد» أن «تُمَتْرِسَ» تعليم العلوم والرِّياضيَّات في مدارسها باللُّغة العربيَّة، وقف عفيف دمشقية إلى جانب هذا القرار ودعمه؛ بل أكَّد دعمه له، بقولته المشهورة «أنْ لا وسيلةَ لِتكونَ الحياةَ العربيَّةَ حياةَ إبداعٍ علميٍّ، إلاَّ بممارسةِ تعليمِ العلومِ لأبنائها باللُّغةِ العربيَّة».

نعم، آمن عفيف دمشقية أنَّ الحياة وجودَ عِشْقٍ لا يرتوي ولههُ إلا من كؤوسٍ أُتْرِعَت مِن مِعِينِ لُغةٍ سليمةٍ، هي حياةُ الفِكرِ المُبدِعِ. وبشَّرَ عفيف دمشقية بأنَّ تعليمَ اللُّغةِ العربيَّةِ ليسَ سِوى ممارسةٍ تربويَّةٍ مِن أجلِ إبداعِ الحياة.

يبقى، أنَّهُ يا سَعد مَن ما بَرِحَ يحتفظُ بدفتره المدرسيِّ، أو ببحثه الجامعيِّ؛ الذي خَطَّ عليهِ «الأستاذ الدكتور عفيف دمشقيَّة»، بِيدِهِ الفَخْمَةِ العَطاءِ والشَّامِخَةِ أبداُ إلى العُلا، فِعْلَ حنانٍ لا يرى في العِلمِ سِوى وجود معرفةٍ مِن أَجْلِ الحَياة.

--------------------

 رئيس المركز الثقافي الإسلامي