بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 تشرين الأول 2022 12:00ص عقل العويط في كتابه «البلاد» أضواء كاشفة على بدن الوطن المقهور

غلاف الكتاب غلاف الكتاب
حجم الخط
الأضواء الكاشفة لـ«عقل العويط»، التي كانت تشعّ له، على بدن البلاد الشاسع، على بدن الوطن المقهور، المعذّب المدمّى كصليب من لحم، هي التي هيّأت له الرؤيا.. رؤيا «البلاد»، -معلقة العصر- التي تسقط كل الصور الرسمية، وتعلق مكانها، جدارية، من تيجان مصنوعة من الأشواك، ومن عيدان أقفاص الحساسين، ومن مسامير «أعظم وطن معذّب على الأرض».
«أهو حبر لا يندلق لا يصير كتابا؟/ كلعنة نحو من يضرج الحبر من يضرج لبنان./ ثم الحبر لا يندلق لا يستفيق لا يبصر الكتاب، واللعنة لا تستجاب. أجبال في الليل، أجبال في بيت لبنان لا تهتدي بأقدارها لا تهتدي بلبنان؟/ هذه ليست بلادي.. هذه ليست البلاد».
يأخذنا عقل العويط -شاعرا- إلى الجذور البعيدة المتشبثة بالتراب وبالصخر على صدرها. يأخذنا إلى الضوء في قعر المغارة. يأخذنا إلى اللغة العنيدة، التي تقاوم المقصلة.. ليعبّر عن مسيرة وطن مفجوع في «برهة أمونيوم» ثقيلة، ثقل «البرهة النووية».
«صوت لبنان سمع في العليّة في بيروت في رامة لبنان نوح وبكاء وعويل كثير على قول أرميا. بلاد تبكي على أولادها ولا تريد أن تتعزى لأنهم غير موجودين».
لغة تستدعي شريطا مضيئا من الذكريات، التي درست البلاد، دون أن تتخلّى عن النظر إلى المستقبل ودرب الأحلام، التي لا يزال «عقل» يراهن عليها. لا يزال يقول: إن بوسعها أن تتحقق، مهما كان الزمن رديئا، مهما كان البحر عاتيا، مهما كانت العواصف، لها قدرة إقتلاع الشجرة والشراع.
«ليس لك أهل ولا حد، ليس لك ليل، ليس لك نهار، وألوذ بك لأنك ملاذ العقل، لأنك مولاي تغني عن كل مولى وأنزفك لئلا أكتمل لئلا أختنقك بفيض، أعي معناك مثلما الرشد يظل يعي وظيفة الجوهر لزوم تعميم المعنى».
يسلم «عقل العويط» نفسه في «البلاد»، لشريط الذكريات، لجريانه القوي الدافق كنبع ينبح في الأعماق، كـ«أفقا» يلد نهرا إبراهيميا، ويلد «إسماعيل الذبيح» في آن.
«أكتب أكتب: هذا ملاك يعرف بجناحيه ترنيمة التمرد في الجبال. هذا ملاك يحلّق بجناحيه، يحلّق بالموسيقى من أجل أن تكون السماء أقل جحودا بموسيقى البلاد. كيف لجنازة أن تقام ولا موسيقى؟ كيف لأكفّ، لسواعد، أن ترفع تابوتا يشهق بصاحبه بمقبرته في البلاد؟».
يقوم عقل العويط، في جداريته، في معلقته، «البلاد»، بقفزة جنونية في العتمة المهلكة.. وداخل عالم من «الليولوليد»، في بلاد أخرى. لكن ذكرياته الدافقة، كأنهار هذا «اللبنان»، هي الأكثر حميمية.. هي الأكثر قهرا ودفئا وإشراقا وموتا.. لأنه يتبع كيمياء مسحورة بينه وبين معذبته، الكيمياء، دون أن تخذله تلك «الكيمياء» البتة.
«شجرة مجروحة كيف أداوي ثمارها/ إذا تساقطت من شجرة البلاد؟/ وظلالها،/ إذا تلتزم منطق الظلال،/ أيجوز أن أتغاضى أن أسلم بأنها دفينة الظلال؟/ ماذا يرتجى من شاعر إذا تغاضى إذا سلم؟/ ومن عصفور في قفص البلاد ماذا يرتجى/ سوى أن ينحر قضبان القفص بمنقاره بجناحيه/ وسوى أن ينتحر من أجل أن يخلص البلاد من قفص البلاد؟».
قصيدة «البلاد»، هذه المعلقة الطهرانية، هذه الجدارية التي تمحو في جدار البهو الرسمي، أي بهو رسمي، كل الصور التي علقت عليه زورا، إنما هي تختصر كل هذا الشغف التاريخي، بينه وبين البلاد الممدة كقتيل، والتي إحدودب منها الظهر، حتى إرتفع مثل قوس النصر.. سيجعل «عقل العويط» منها، تميمة للداخلين والخارجين معا، من بوابة التاريخ، يمحوهم بها.
قصيدة «البلاد» لعقل العويط، برهة إكتشاف المسحور في بدن لبنان، في بدن الشاعر، في بدن القارئ، في أبداننا جميعا.
«الحبر كلمات.. الحبر يصير يتضرج كلمات قصائد وكلمات».
صفاء الروح، والثقة بالنفس، تغذيان الجمال الساكن في القصيدة المتمورة.
«جميعهم فسّاق.. جماعة غادرين.. جعلوا بيت لبنان رجما جعلوا المدن بلاقع. لا ترفعوا الرايات البيض. لا تطلبوا من شمس أن تغادر. لا تحلّوا الحكومة الموقتة. لا تتراجعوا عن القصور عن السرايات. لا تفتحوا سبيلا للتفاوض. لا تعفوا عن اللصوص».
نواة من الشعر الصلد، من الشعر الصرف، من الشعر الصلب، هي مكوّن قصيدة البلاد لعقل العويط، لثمرة هذه الفاكهة الحروفية، لثمرة هذا التشكيل الحروفي الفني، التي ينبغي لها، أن تحافظ على سرها، كثمرة ناضرة، ناظرة، وأن تبقى سرا على جدار البهو السياسي الرسمي تمحوه عارا يلازمنا، وتظل تتجلى.
الشعراء الشعراء/ يا عبء الهجس يا عبء الحميا/ حين سرقة الحكمة من مخطوطاتهم/ من الأفئدة/ حين الهجوم على الحكمة/ بعنف القوة العارية/ لا بالغفلة/ لتخريب مسعاك بغية الحياة والحرية».

أستاذ في الجامعة اللبنانية