بيروت - لبنان

اخر الأخبار

3 شباط 2023 12:29ص عمر الزعنّي وتوريط القارئ

غلاف كتاب «القصائد الممنوعة» غلاف كتاب «القصائد الممنوعة»
حجم الخط
«الزمن فينا، أم نحن فيه»؟.. يتساءل سمير عطالله، حين يسمع أن الناس يسألون هم أيضا، عن الزمن الذي عاش فيه عنترة، فيقول: «الشاعر الفارس ولد وعاش وأبلى في عصره، ومات في عصره. أما الزمان، فكان قبله، وظل بعده، وسوف يظل مدى الزمان، أو مدى الدهر، أو الأزل».
(إن قالوا حكومة لبنان/ أو قالوا جمهورية/ ما زال الشعب طفران/ الحالة هي هي/ الضرايب ضرايب/ والمصايب مصايب/ إن كانت حكومة أجانب/ وإلا حكومة وطنية/ الحالة هيه هيه).
يستحضرني ذلك، وأنا أقرأ في ديوان: «عمر الزعني. القصائد الممنوعة. تدقيق أحمد قعبور. دار نلسن - رأس بيروت - 228ص. تقريبا».
لكأن شاعر الشعب عمر الزعني، (1898-1961) يعيش في زماننا، ويشهد على مأساتنا، ويشهد على مأتمنا كل يوم، ويعاني الذي نعانيه، ويتألم ألمنا، حتى لكأنه واحد منا، ولو أننا وصلنا للعيش في الألفية الثالثة.
(منحكي منشكي وشكوانا/ بتهز الكون/ ما حدا بيسمع دعوانا/ سمعان مش عون).
عمر الزعني، الشاعر الذي كان قد غادرنا، منذ ثلاثة أرباع القرن، لا يزال يصلح للإستشهاد بشعره على الواقع المرير الذي نعيشه. ولا زال شعره شاهدا في التاريخ، على ما حدث للبنان ولبيروت، طيلة المئوية السوداء الآفلة.
(كيف ما عملت/ ما بتخلص/ من البلية/ ما في مخلص/ في الحياة/ ما في مخلص/ في الممات/ بيقولوا هات/).
ولا غرو، فنحن نقرأ على غلاف الديوان، ما يؤكد قولنا: «عمر الزعني/ شاعر الشعب (سادس أعمدة بعلبك)، مذيّلا بتوقيع (الزعني الصغير)، حيث يقول صاحب النص:
«في الألفية الثالثة... وفي الشدائد والمصائب وعتمة الطريق، ما أحوجنا إلى نقطة ضوء وبصيص أمل يرشدنا إلى ما يساعدنا على الإستمرار في مسيرة حياتنا ويرسم لنا معالم الطريق، ليخرجنا من الظلمات إلى نور الحقيقة ومعرفة المفسدين الذين ينهبون ثروات البلاد وأموال العباد؟».
يستحضر ديوان «عمر الزعني، القصائد الممنوعة»، أكثر الأحداث ألما، بل رعبا.. بل مأساة، حين يسلّط الضوء على العنف المفرط، الذي كانت السلطة تستخدمه للإمساك برقاب الشعب، وجرّه إلى مذبحه، بل جرّه للعيش في المذبحة، كما يجري اليوم. ذلك الشعب العالق في شباك السلطة، والتي بنت له مجزرة للسكن فيها، مثل سائر مواشي القصابين، ولا يستطيع الفكاك منها. فيحاول عمر الزعني، للرد على السلطة الغاشمة، و أن ينتقم لكرامته الجريحة، بالتهتك والسخرية من أصحاب الشأن، الذين يمارسون عليه، كل أنواع العنف المطلق، إبتداء من تجويعه وتسخيره وإذلاله، وصولا إلى جعله هزأة اليوم والغد، بين شعوب العالم المتقدم.
(ما دام أرضك ما بتغل/ النحس عنك ما بيحل/ وين بلادك رح تستقل/ وتشوف الخير يا شرن برن).
يتساءل عمر الزعني، عن أصول كراهية السلطة للشعب. يتساءل عن جذور تلك الكراهية الضاربة في جسد السلطة، متمثلة بأربابها، وكيف أنهم لا يأبهون لشعب، يُجرّ إلى مذبحه، دون شأفة أو رحمة.
ولمن لا يعرف عمر الزعني، فهو إبن بيروت. ولد في الرمل الظريف، حي البطريركية. وأخذ دروسه الأولى من المدرسة التوفيقية، ومدرسة الشيخ أحمد عباس الأزهري، والكلية الإسلامية. ونال شهادة البكالوريا العام 1913. كما تخرّج من المدرسة الحربية بحمص سنة 1914. وتابع دراسته في كلية الحقوق بجامعة القديس يوسف/ الجامعة اليسوعية 1920، بمنحة، بل بسعفة من مؤسسة المقاصد الخيرية البيروتية. ونال منها شهادة المحاماة. ثم عمل مساعد قاضٍ في المحكمة البدائية، حتى نفيه إلى البترون بحجة تأليب الشعب على السلطة، بل بحجة تحريضه على الثورة، وذلك بسبب أغانيه التحريضية. فكان أن أجبر عمر الزعني، على ترك وظيفته، وإنطلق في الشأن العام، فكان شاعر الشعب، كما كان الشاعر اللبناني العروبي الحر بل شاعر الشعب الأسطوري، الذي يقارع الإستبداد والطغيان باللحم الحي، أينما كان، ولو أنه حاز على وسام الإستحقاق اللبناني، والسعفة الذهبية، لأنه كان معجب الشعب بأناشيده المدافعة عنه، ولو على حساب عمله ورتبته ووظيفته التي يعتاش منها.
(الناس بتسعى/ لكسب المال/ ونحنا منسبح/ في الخيال/ ومنتسابق/ في الجمال/ في الخلاعة/ والتلال.)
 ثم يتابع فيقول:
(كأنه العقدة إنحلت/ والبركة علينا حلّت/ والبلاد إستقلت/ وفاضت علينا الأموال/ ما عاد ناقص من الكمال/ إلا نفاخر بالجمال/ بالحدود/ بالقدود/).
هل نتحدث أيضا عن فن عمر الزعني الذي أولع به، منذ صغره؟.. إذ مارس هوايته في نظم الشعر وفي كتابة الروايات المسرحية باكرا، أثناء وجوده في الكلية العثمانية. كذلك عمل على تأليف فرقة من هواة التمثيل. وكان ينضم إليهم أيضا، على الخشبة. كذلك أولع بالعزف على البزق.
وأثناء دراسته الجامعية، نضجت موهبة عمر الزعني في نظم الشعر وفي كتابة الأناشيد، وفي صياغة الأغاني، التي كانت توحي بها الأحداث الجارية في البلاد، كما التطورات الإجتماعية التي عاشها المواطنون، في بيروت وفي سائر العواصم والبلدان. فكان بذلك الشاعر المعارض، لأصحاب الشأن من المستبدّين والإقطاعيين والرأسماليين والطغاة، أينما كان.
(في إيد من فوقه/ بتمشي الجوق/ إن خالفوها/ بتشد الطوق/ بتشيل الريس/ بتحل المجلس/ بتهد أركانه/ من الأساس/ شو ذنب الدباس).
إذا هي محطات، في حياة شاعر الشعب البيروتي، عمر الزعني. إذا هي محطات كذلك، في حياة الشعب الذي كان يدافع عنه في كل أشعاره وأغانيه، ويفديه بروحه، في زمن الإستبداد والطغيان الذي لا يزال جاريا على الناس من زمانه، حتى الآن. فكان عمر الزعني، الشاعر والمنشد والمسرحي، يمسرح العذابات ويغني لها ويحدو أمام عواصفها. بل كان خير من يصوّر النجاحات ويسجل الخسارات، ويماشي الهزائم والإنكسارات والإنتصارات، وسط صراع حضاري ووجودي مع السلطة.
إنها هي هي، محطات عمر الزعني اليومية، التي نبّهنا إليها، فلم ننتبه!.. بل قل إنتبهنا إليها، دون أن نبادر لرد كيد السلطة عنا، ودون أن نستطيع دفع المنايا التي واجهتنا بها، تجويعا وتعذيبا وقتلا، وسحلا.
(أهل الكرامات/ إلهم معلومات/ سعادتكم/ فخامتكم/ علاماتكم فيهن/ يا أهل المقامات).
تجربة عمر الزعني، إنما تشكّل، بنظرنا، جزءا من مشهد الحياة. هي التي دفعت شاعر الشعب للنظر في مرآة إنسانيتنا التي تفتقر عند عموم أهل السلطة للرحمة والشفقة، كما للرأفة والعطف. إذ من خلال أغانيه وأشعاره كما من خلال قصائده الممسرحة، إنما نكشف عن سلوك الإنسان الجشع القاسي. فجميع أشعاره «الممنوعة من الصرف»، نقول ذلك بكل قسوة، إنما تدلّنا على مقدار الخطوط الحمر، التي كان الشاعر، قد بلغها في حياته.
(روحي وروحك للأبد/ تحس بلادنا بيدنا/ عشنا سوا منبقى سوا/ منموت سوا مع بعضنا).
والواقع، إن أشعار عمر الزعني، وأناشيده، إنما تورّط القارئ في كراهية السلطة تورّطا. فهو يصوغ نوعا من «التراجيديا»، من خلال التنديد بأعمال السلطة اليومية الكارهة للشعب، مما يجعل حياة هذا الشعب أشبه بدراما كلية مع السلطة. إنها سردية الشاعر لفقدان كرامته على يد السلطة الماحقة. لأن الشاعر، كان يمارس كثيرا من المكر الشعري، حين أدرج شعره في سلسلة لا تنتهي من الموضوعات والمرويات، التي يمكن أن تؤلب الشعب وتحرّضه وتورّطه في دورة العنف مع السلطة، تلك التي أعدّتها له، بدل أن تفتح أبواب الحياة أمام الناس للعيش بكرامة. فكان الزعني شاعر الشعب، الذي إرتضى المواجهة، على الخنوع، فبرزت قصائده، كما مواقفه كلها، تشهد له بطول باعه، في صنع الحياة المختلفة، تماما، كما في المواجهة المختلفة.
(يا إله العرش/ ورب الأكوان/ ما عدنا نطيق/ ظلم وعدوان/ نفخ بالصدر/ وحط الميزان/ يا فتاح بركان/ يا هات طوفان/ يا بحر نيقور/ بالأرض تهز).

أستاذ في الجامعة اللبنانية