زياد سامي عيتاني*
حلَّ عيد الأضحى هذا العام، دون أن نشعر بالعيد، لا مظاهر ولا طقوس إحتفالية، لا فرح ولا بهجة، لا «لمة عائلية»، لا تبادل للزيارات ولا معايدات، لا «عيدية» ولا ثياب جديدة، ولا «معمول» ولا حلوى، ولا حتى «ضمة آس» على قبور موتانا!!!
أجواء العيد التي كنا نعيشها عندما كان للعيد رونقه، سرقتها منا وقضت عليها الأزمة الإقتصادية المعيشية الكارثية التي نرزح تحت وطأتها، في ظل إستمرار الإنجرار نحو الإنهيار!!!
هذا الواقع المأساوي، أعاد تنشيط ذاكرتنا التي شدّتنا إلى الأيام الخوالي، أيام زمان، أيام الخير والبركة، أيام ما كان للعيد بهجته ورونقه وعاداته وأجوائه المفعمة بالمحبة والألفة والصخب الجميل، قبل أن يسرقها منا ويقضي عليها الزمن الكالح السواد، آملين فرجاً قريباً يعيدنا للإحتفال بأعيادنا، ويعيد فرحة الأعياد إلينا...
• إستعدادات العيد:
كنا نشعر بقدوم العيد، قبل بضعة أيام من حلوله، بكل ما سيحمله لنا من فرح وسرور، وجمع شمل القريب والبعيد، و«لمّة» العائلة، وثياب جديدة، ونقودٍ من جمع «العيديات»، لصرفها على لهونا الذي لا يخلو من بعض الشقاوة البريئة.
فعلى وقع إحتفاليتنا المبكرة بقرب قدوم العيد ومع ترداد أهزوجة:
«بكرا العيد ومنعيّد ومندبح بقرة السيد...» كنا نتحضّر ونستعد لإستقبال العيد، تمهيداً للإحتفال به؛ فكما كنا نترقّب «رمضان» شهر الخير والطاعات، بنفس الشوق كنا نتلهف لحلول العيد، مصحوباً مع بدء ممارسة طقوس التحضير له.
ومن علامات ودلالات إقتراب العيد، الزحمة الإستثنائية التي تملأ كل الأمكنة والأرجاء، التي تعجّ بالحركة والبركة، فالجميع ينصرف إلى تحضير ما هو مطلوب منه إنجازه، حتى يأتي العيد، فتكون كل الأجواء مآتية ومهيّأة له...
• إستنفار مبكر في البيوت:
فالبيوت والمنازل كانت تشهد حالة إستنفار مبكر، فتتحول إلى ما يشبه خلية نحل تعجُّ بالحيوية والنشاط، وكن النسوة يتوزعن فيما بينهن العمل في المنازل بكل مودة وطيب خاطر.
• تعزيلة العيد:
وأول ما يقمن به النساء كان تنظيف الدار خصيصاً للعيد، وعملية التنظيف هذه كانوا يسمونها «تعزيلة العيد»، وهي تختلف عن غيرها بأن تشمل البيت بأكمله بكل جدرانه ومحتوياته وفرشه ومقتنياته، وذلك حتى يكون جاهزاً لاستقبال الضيوف والمهنئين بالعيد من الأقارب والأصدقاء، لأن شعارهم: «النظافة من الإيمان»، كذلك فإن المثل البيروتي القديم يقول: «غسّل وجّك ما بتعرف مين ببوسو، ونظّف بيتك ما بتعرف مين بدوسو»...
• صناعة المعمول في البيوت:
بعد الإنتهاء من التنظيف، تأتي مرحلة صناعة المعمول المنزلي، «فلا طعم للعيد دون معمول أو كعك العيد»، هذه العبارة طالما رددتها الأمهات والجدات على مرِّ الزمان. فمعمول العيد يُعدّ من أهم المظاهر الإحتفالية بمناسبة العيد، حيث كان يتم تحضيره قديماً في البيوت خلال الأيام الأخيرة من شهر رمضان المبارك على أنغام أغنية أم كلثوم: «يا ليلة العيد آنستينا»... فكانت النساء يعجن عجينة المعمول التي تفوح منها رائحة ماء الزهر وماء الورد، و«يدعكونها» ثم يقطعوها وبعدها «يكوزوها» بشكل كرات صغيرة لوضعها في القوالب الخشبية وتجويفها نصف تجويفة لإدخال «الحشوة» التي تكون إما من التمر أو الجوز أو الفستق الحلبي المبروش، فيقلبون القوالب الخشبية ويطرقونها فتسقط المعمولة آخذة شكل نقشة القالب، حيث كان يخصص لكل صنف نقشة خاصة للتمييز بينها، وبعد أن تصف في الصواني ترسل عند «الفران» لخبزها حتى تصبح «مأمّرة تأمير» ليعيدها «صبي» الفران، فترش بالسكر الناعم وتوضع في صواني الفضة، لتصبح جاهزة للضيافة. وكانت النساء يتفاخرن فيما بينهن، من أتقنت عن غيرها في صناعة المعمول وأجوده عن غيرهن، دون أن يخلو المشهد من «التزريك» المحبب، لما بينهن من مداعبات لطيفة...
• الماشطة ونقش الحناء:
أما قبل العيد بيوم فتحضر إلى المنازل «الماشطة» لتسرّح شعر النساء والصبايا، في حين تكون قد بدأت جلسات نقش الحناء، حيث تجتمع النساء ويقمن بتزيين أيديهن بأشكال ونقشات جميلة ومختلفة من الحناء، تتضمن رسوم الأزهار والفراشات وأشكال الأساور والحروف والزخارف وحتى كتابة أسمائهن على باطن اليد، وسط جو من المرح، مرددين أغنية: «الحنة الحنة يا قطر الندى...».
• خياطة الحي:
الأسبوع الأخير من رمضان تكتسب خياطة الحي إهتماماً كبيراً، فهي محط إهتمام كل النساء والصبايا، الراغبين بتفصيل «سركس» (فستان) العيد، فتوصل الليل بالنهار لتلبية طلبات زبائنها، فتشهد دارتها إزدحاماً من ستات الحي الذين يقضون وقتاً طويلاً عندها لأخذ المقاسات ولحثها على إنجاز خياطة ثياب العيد دون إبطاء، فتتحول دارتها إلى جلسة نسوان، أشبه بصبحياتهم، لكن من دون قهوة ولا أراكيل بحكم صيامهن، فتدور الأحاديث والحوارات فيما بينهن عن الطبخ والنفخ وما شابه...
• عجقة «البلد»:
أما وسط بيروت التجاري (البلد) أو (المدينة) فيشهد أواخر رمضان إزدحاماً غير مسبوق، بشوارعه تعجّ بعجقة سير خانقة من قبل السيارات الخصوصية، وسيارات الأجرة من نوع «مارسيدس» طراز ١٨٠ و١٩٠ ذات اللون الأسود، التي كانت مخصصة وقتها للنقل البري، فكل الناس كانت تقصد أسواق «البلد» للتبضع ولشراء مسلزمات وإحتياجات العيد من ملبس ومأكل وحلوى وضيافة العيد.
• شراء الملابس و«صباط» العيد:
فأول ما كان يِقصد أسواق «الطويلة» و«سرسق» و«أياس» وشارعي «فوش» و«ألمبي»، لشراء «كسوة» (ثياب) العيد و«صباط» العيد، كل حسب ميزانيته، فكل سوق من أسواق بيروت كان مخصصاً لفئة إجتماعية تتناسب وقدراتها المالية، فالجميع كان يجد ضالته.
المحلات التجارية التي كانت تنتظر على أحرِّ من الجمر، كانت تعجُّ بالأهل الذين يصطحبون أولادهم التي تغمرهم فرحة بما سيظفرون به من ثياب جديدة وحذاء «خلنج» ليتباهوا بها أمام أصحابهم، فالمثل البيروتي القديم يقول: «شايف حالو أكثر من سرماية العيد»...
• الحلوى وضيافة العيد:
وبما أن الحلويات والسكريات ترتبط بالمناسبات السعيدة المفعمة بالسرور، فلا بد من أن تتزيّن البيوت بما لذَّ وطاب من أصناف الحلويات، إكراماً للضيوف والمعايدين، لإضفاء على العيد مزيداً من الحلاوة بطعم ومذاق النكهات المتعددة، خصوصاً وأنه قديماً كان يُطلق على عيد الفطر «عيد السكر»، لأن الإنسان خلال أيام العيد لا ينفك عن تناول مختلف أنواع الحلويات.
فكانت الناس تقصد محلات الحلويات الصمدي والعريسي وكريدية ورمضان ودمشقية والرشيدي، التي كانت تفوح منها لمسافة بعيدة رائحة السمن البلدي «الحديدي» المستورد من حماه، وذلك لشراء البقلاوة المشكلة، والمعمول، للذين لم يعدّوه في منازلهم.
كذلك، كانوا يقصدون «باتيسيري سويس» و«سميراميس» في باب إدريس لشراء «الكاتو»، لمن أراد أن يغيّر عن الحلوى العربية، بعدما كانت حاضرة طيلة شهر رمضان.
وبما أن العيد لا يكتمل دون ضيافته الخاصة، فلا بد من زيارة محلات سعد وغندور وجبر والحموي والحماصني والغراوي لشراء الشوكولاتة والملبس والنوغا والملبن وراحة الحلقوم والحلاوة الطحينية، حتى تكون الضيافة بقدر المحبة وتليق بمناسبة العيد وبالمعايدين...
هكذا كانت التحضيرات والإستعدادات للإحتفال بعيد الفطر المبارك، لتكون فرحته متكاملة، وأجواءه مفعمة بالسعادة والبهجة التي يجسّدها في النفوس كل الناس، دون تمييز بين غني وفقير، زمن التكافل والتعاضد والإنسانية...
(يتبع: إحتفالات العيد)
-----------
* إعلامي وباحث في التراث الشعبي