بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 أيار 2021 12:00ص في ذكراه العاشرة(الحلقة الثانية) د. حليم اليازجي أستاذاً لا يُنسى

حجم الخط
تَمْضي الأيَّام، فألتقي سنة 1980 بـ «الأستاذ حليم»، الذي كنت أعرفه من قبل، زميلاً لي في الجامعة اللبنانيَّة؛ ولكنه، هذه المرَّة، «الدكتور حليم اليازجي»، الأستاذ في قسم اللغة العربيَّةِ وآدابها في كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة. اجتمعنا في الفرع الأوَّل من هذه الكليَّة؛ في وقتٍ تعاظمت فيه وحشيَّة تقطيع أوصال لبنان السِّياسيَّة والاجتماعيَّة، وتعاظمَ كثيرٌ مِن السَّعي الدَّوليِّ إلى محاولاتِ تفتيتِهِ أو تقسيمه. بدا وكأنَّ ثمَّة مباراةِ تفريغٍ لمعظم المناطقِ في لبنان من أي تلاقٍ فِعْلِيٍّ يؤكِّد العيشَ الواحِد في هذا البلدِ. وكان للجامعةِ أن تعيشَ، في بعضِ الأحيانِ، أهوالَ هذا البؤسِ المُفجِع، من تَهديدٍ يطالُ بعض أساتذتها، وتخويفٍ ينالُ كثيراً من طلاَّبها، وتعويقاتٍ عديدة تسعى للنَّيل من كيانِها.

كان حليم، وهو المسيحي الأرثوذكسي ولادةً؛ مُصِرَّاً، في هذه المحطَّة من تاريخه،على البقاء في الفرع الأوَّل من الكليَّة، الفرع الأم، كما كنَّا نسميه جميعا؛ الفرع الذي هجره بعضهم، في تلك المرحلة، جرَّأ ما كان يحصل من تطوُّرات «أمنيَّة» بين اللُّبنانيين، إلى فروع أخرى مستحدثة زمنذاك. وفي الفرع الأول هذا، كان حليم ينطلق من رؤية إنسانيَّة واضحة في ذهنه ومن موقف وطنيٍّ، لا لبس فيه في تفكيره، ومن بعد سياسي، لا شكَّ عنده الالتزام به؛ لكن الأهم أنَّ حليما كان يعيش كلَّ هذه الأبعاد بممارسة منهجيَّة، طبعت شخصيَّته ودمغت وجوده؛ ليس في مسيرة الفرع الأول من كليَّة الآداب والعلوم الانسانيَّة، بل في تاريخ الجامعة اللبنانيَّة برمَّته ومسيرة الفكر الوطني في لبنان.

لم يشأ الدكتور حليم اليازجي أن ينتقل للتَّدريس في فرع آخر لكليَّة الآداب؛ فهو، وكما كان يقول ويكرر القول، مؤمن بلبنان وطناً للعلم ومنهلاً للأكاديميا أيَّاً كان التَّباين الدِّيني أو المذهبي أو السِّياسي بين مناطقه. فلبنان، عند حليم اليازجي، ملتقى لجميع اللُّبنانيين؛ أيَّاً كانت صبغاتهم الدِّينية أو الفكريَّة أو السِّياسيَّة. آمن حليم اليازجي أن لا بدَّ من عيشِ المرحلة بديمقراطيَّة، حتى ولو كانت قوى العنف المسلَّح والخطفُ على الهويَّة والتَّصنيف الطَّائفي والمذهبي قد سيطرت على الشَّارع، الذي كان يلهث للقبض على نواصي الجامعة واحتلال رحاب الأكاديما فيها. أصرَّ «حليم» على الاستمرار في العمل في الفرع الأول، وأصرَّ على أن يكون حضوره مدوِّيا في هذا الفرع، عبر تدريسه مقرري «حضارة العصور العباسيَّة» و«أدب النَّهضة العربيَّة»، بكلِّ ما في هذين المقرَّرين من فكر دقيق وقضايا حضاريَّة شائكة. كان «حليم»، في كلِّ لحظة من وجوده في الفرع الأوَّل، في امتحان مع الذَّات والزُّملاء والطلاَّب والشَّارع. وظلَّ الدكتور «حليم اليازجي» يحقِّق المراتب العليا للنَّجاح في كلِّ هذه الامتحانات.

كان الوطن، بديمقراطيَّة «حليم اليازجيِّ» ووعيه الفكريِّ، وعاءً للسِّياسات، ولم تكن السِّياسة وعاءً عنده للوطن. ومن هذا المنطلق كانت مشاركاته في المعارك النِّقابيَّة التي خاضها أساتذة الجامعة اللبنانيَّة وطلاَّبها؛ بل من هذا المنطلق كانت رعايته لنشاطات فكريَّة ثقافيَّة قد لا تتَّفق، أحياناً، مع التزامه السِّياسي، لكنها تستجيب لرحابةِ ديمقراطيَّته الفكريَّة. وهكذا تسنَّمَ «حليم اليازجي» أستاذيَّة كرسي الدِّيمقراطيَّة والوطنيَّة والانفتاح الفكري، في رحاب الجامعة؛ وهكذا استحق، كذلك، رتبة الأستاذيَّة في الزَّمالة الجامعيَّة المُثلى فيها.

كان لحليم اليازجي، ووفاقا لقانون العمل في الجامعة، أن يترك التَّدريس في الجامعة اللبنانيَّة سنة 1996، بعد أن كان قد دخل إليها سنة 1972. شغر كُرسيُّ «حليم اليازجي» التَّدريسي في الجامعة، منذ ذلك العهد؛ وما انفكَّ منهج «حليم اليازجي»، في ذلك الكرسي شاغراً. ازداد عدد المتقاعدين من التَّدريس في الجامعة واحداً، وما برح عدد العاملين في التَّدريس فيها، بغياب «حليم اليازجي» ناقصا.

توجَّه حليم إلى قرية «البربارة»، من «قضاء جُبَيل» في محافظة جبل لبنان، يمتِّع سني تقاعده ببحرها وجبلها وطيب مناخها. فتح دارته الحلوة الفسيحة للأصدقاء؛ وما مِن مرَّة زرته فيها هناك، أفرح بحيويَّة حضوره، وأغتني بعمق آرائه، وأسعد بطعام مائدته، وأترع كأسي من شرابه، إلاَّ وكان يسأل عن الزُّملاء في الجامعة، فردا فردا؛ بل طالما ألحَّ على أن يكون معي، في زيارتي التَّالية له، مجموعة منهم أو أحدهم على الأقل. «حليم اليازجي»، محبٌّ بغير حدود؛ وهو في حبِّه لزملائه حضاريٌّ إلى أبعد حد.

قبل ثلاثة أسابيع من رحيله اتَّصل بي «حليم» هاتفيَّا؛ كانت رياح المذهبيَّة بدأت تسعى لتشميرٍ ما عن سواعدها في البلد. تأسَّف للحال، وقال مداعبا، «لهفُ نفسي عليكَ، يا وجيه؛ أنتَ وُلِدْتَ على مذهب دينيٍّ مسلمٍ، غير المذهب المسلم الذي ولدت عليه زوجك؛ باللَّه عليكما، كيف سيصيرُ الحال بينكما؟!». ضحكتُ للدُّعابة، وسمعتُ ضحكةَ «حليم» باكيةً على وطنٍ طالما آمن بضرورةِ عيشِ الدِّيمقراطيَّةِ فيه وأساسيَّةِ حقِّ الآخرِ في العيشِ في رِحابه. 

----------------------

* رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي