بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 شباط 2023 12:00ص في ضرورة الفلسفة

حجم الخط
المهدي مستقيم*

ليس تزيُّداً في القول، إنَّ الفلسفة في يوم الناس هذا تشهد انتعاشاً ملحوظاً، بعدما واجَهت مقاومةً شرسة من شتّى ضروب التفكير على مرّ العصور، من دون أن يعني ذلك أنَّ التفكير الفلسفيّ يسلك على النحو المأمول؛ إذ ما زال التفكير الفلسفيّ، كما يقول الدكتور أحمد برقاوي: «يسير في طُرق وعرة، بسبب وجود ذهنيَّة مُقاوِمة للتفلْسف، شبيهة بمُقاومة الفلسفة الرشديّة في الغرب والشرق» (أحمد برقاوي، ضرورة الفلسفة).
وعلى الرّغم من ذلك، تمكَّنت الفلسفةُ من الظفر باعتراف المنابر الثقافيّة والهيئات التعليميّة والتربويّة، إذ انبجست إرادةٌ سياسيّة قويّة، ما بَرِحَت تُسَخِّر مؤسّساتٍ عالَميّة لتعليم الفلسفة للأطفال، ولا سيَّما في أميركا وبلدان أوروبا وكندا والأرجنتين. الأمر الذي يجلو عن وعي الإرادة تلك بمسلّمةٍ رئيسة: «التفكير الفلسفي ليس حكراً على الفيلسوف». كما يجلو عن وعيها بالحاجة إلى ترسيخ أوّليَّات التربية الفلسفيّة من ضمن سيرورات التنشئة الاجتماعيّة ومؤسّساتها (الأسرة، المدرسة، وسائل الإعلام، الشارع، دُور العبادة). ومن ثمّ، تشييد مُجتمع قوامه المعرفة.
من نافلة القول، إنَّ الخطابَ الفلسفي عصيٌّ على الفَهْم، ليس لأنّه خطاب مُلَغَّز، ومُعَقَّد، بل لأنهّ يفترض ضرباً من الجهد والتركيز والفطنة والنباهة. من هنا، تظهر الحاجة الماسّة إلى مفهوم الوساطة المعرفيّة، ولا سيَّما أنَّ ترسيخ أوّليَّات التفكير الفلسفي أمرٌ يتوقّف على الاحتكاك بنصوص الفلاسفة؛ غير أنّ نِتاجات هؤلاء لا يمكن أن تصل إلى الجمهور الواسع من الناس من دون وسطاء يحترفون تحويلها ونقْلها إلى معارف في متناول العموم: «الوسطاء الذين نعنيهم ليسوا قليلي الشأن في ميدان التنمية الثقافيّة، كما يُظَنّ، بل هُم المعوَّل عليهم لتوزيع المعرفة في الوسط الاجتماعي الأوسع، أي هُم أولئك الذين لا سبيل إلى مجتمعيّة المعرفة، ولا إلى اكتسابها من دون أدوارهم في أوساط الجمهور الاجتماعي الأعرض. فالاعتقاد لدينا مكين بأنّه لا قيمة لمعرفة لا تجد طريقها إلى الناس، فتبقى سجينة بيئاتها الأكاديميّة الضيِّقة، تماماً كما لا قيمة لمزروعات أو بضائع ينتجها منتجوها ولا تجد سبيلاً إلى الناس/ المُستهلِكين» (عبد الإله بلقزيز، الجماعة السياسيّة والمُواطنة، 2020).
تُعتبر القنوات الوسيطة (المعلِّم، الأستاذ، الصحافي، الإعلامي) مدخلاً رئيساً لبناء الرأي العامّ وتشكيل وعي عموم الناس المُتعلِّم، فضلاً عن دَورها الخطير الذي يتمثّل في إرساء أُسس الهَيْمنة داخل المُجتمع Hégémonie. وعلى الرّغم من أنّ دورها يتمركز في نقلِ المعرفة لا في إنتاجها، إلّا أنّها لا تعمل على نقلها على نحوٍ حَرفيّ، بل تعمل على تحويلها إلى معرفة قابلة لأن تُستوعب من قِبَلِ المتعلِّم البسيط عن طريق إخضاعها لجملة من التقنيّات المنهجيّة والبيداغوجيّة، ذلك أنّ المتلقّي يجد عسراً في الاحتكاك بأصولها، ومن ثمّ فإنّ عمليّة النقل تلك تتطلّب وسيطاً على مستوىً عالٍ من التكوين والمعرفة حتّى يتمكّن من قراءة الأصول وفهْمها، وبالتالي تحويلها إلى معرفة قابلة للتبادُل.
لقد أَمستِ الفلسفة في يوم الناس هذا ضرورة ملحّة بالنسبة إلى الاجتماع العربي أكثر من غيره، إذ أضحى الاجتماع هذا يتخطّى مرحلة انتقاليّة لا تخلو من وعورة وخطورة، فالعديد من أقطاره تشهد تفشّي الحروب، واستشراء الظلم، وافتقاد الإرادة؛ فضلاً عن ذُيوع خطابات ظلاميّة تنزع إلى العودة إلى مَسالك الانحطاط والتقهقر والعنف والاقتتال. وهو الأمر الذي حدا بأحمد برقاوي إلى القول: «في هذا الظرف العصيّ تبرز ضرورة الفلسفة والفلاسفة، الفلسفة بوصفها جهد المعرفة للوصول إلى حقيقة الأمور وجوهرها وكُلّيَّتها. والفيلسوف من حيث هو العقل المفكِّر، يسعى، متحرِّراً من الهوى، للانخراط في حركة التاريخ، وصوغ خطابٍ مَعرفي موضوعي كُلِّي مهجوس بالإنسان وكرامته وحريّته وتقدّمه».
إنَّ فضيلة الشجاعة الفكريّة، هي ما يُلزم كلّ فيلسوف حقّ بإخضاع كلّ الأفكار السائدة والمألوفة لمحكّ النقد والعقل، ذلك أنَّ الفلسفة قد نشأت من رحم الاستبصار والتفكُّر بمشكلات الحياة اليوميّة للناس، ومن التعيينات التاريخيّة المُتعلّقة بالكينونة البشريّة. يقول برقاوي: «إنَّ الفيلسوف هو المهموم الوحيد بكلّ تعيّنات الكينونة هذه دون أن يكلّفه أحد بذلك، ولأنّه دائم الانشغال بهذه الكينونة وتعيّناتها انطلاقاً من عقله الشخصي، فاضِحاً، وكاشِفاً، وفاهِماً، فإنّ العقل العامّ النائم في سرير اليقينيّات الوهميّة سرعان ما يبني علاقة عدائيّة وعدوانيّة مع الفلسفة والفيلسوف، مع من يفكِّر بهم، بواقعهم ومصيرهم» (أحمد برقاوي، ضرورة الفلسفة).
بالإضافة إلى فضيلة الشجاعة، ثمّة فضائل معرفيّة أخرى يلتزم بها الفيلسوف في بحثه عن الحقيقة؛ ولعلَّ أبرزها فضيلة الحياد الفكري، إذ تمنعه من الانسياق وراء الإيديولوجيّات السائدة، وتُجنِّبه السقوط في مصائد التحيُّز، يقول برقاوي: «فما زلنا ننظر باستهجانٍ إلى موقف ألبير كامو من الثورة الجزائريّة، حيث عدَّ كفاح جبهة التحرير الجزائريّة إرهاباً، ووقفَ ضدّ استقلال الجزائر، ولم يتخلَّ هيدغر عن تهمة تعاطفه مع النازيّة حين قبل بمنصب رئيس جامعة برلين أيّام هتلر. وما زلنا نُشيد بموقف جان بول سارتر المؤيِّد لكفاح الشعب الجزائري في سبيل حريّته واستقلاله عن استعمار بلده فرنسا للجزائر - لم يكُن ألبير كامو منسجماً مع استقلال الفيلسوف الذي ينطلق من معايير كليّة وشاملة عن الحريّة التي أسَّس عليها فلسفة التمرُّد التي عرضها في أكثر من كِتاب ورواية».
غير أنّ حياد الفيلسوف من وجهة نظر فكريّة لا يعني ازوراره عن مشكلات الوطن والعالَم والرّاهن، إذ لا يني يُقاوِم كلّ أشكال الاستبداد (التحريم الديني، التجريم السياسي، التأثيم القبلي)، وذلك بتوسُّل الكتابة، بما هي ضرب من المقاومة. يقول برقاوي: «فالفيلسوف يقف، بالضرورة، ضدّ الدكتاتوريّة، والفاشيّة، والأصوليّة العنيفة، والعصبيّات المُتَعَصِّبة، وما شابه ذلك من وقائع، فقيمة الإنسان، بوصفها أرفع القيَم، الضوء الذي يهتدي به الفيلسوف. وما زال قول كانط الشهير حُجّة من أقوى الحجج لقيمة الإنسان: لو كانت سعادة البشريّة كلّها وقفاً على قتلِ طفل واحد؛ لكان هذا الفعل لا أخلاقيّاً».
عندما يطرح العاميّ، واللاَّهوتيّ، والعالِم، سؤال ما جدوى الفلسفة؟ أو فيمَ تفيد الفلسفة؟ فإنّما يستنكر مقاصدها ورهاناتها. وهو الأمر الذي ينمّ عن جهل بوظيفتها المتمثّلة في تغيير الوعي العامّ، انطلاقاً من محاربة الأسطورة والخرافة، وكلّ ضروب الاستبداد (التحريم الديني، التجريم السياسي، التأثيم القبلي)؛ إذ ليس مَرَدُّ عدم فاعليّة التفكير الفلسفي ضمن الاجتماع العربي إلى الفلسفة في حدّ ذاتها، بل إلى طبيعة الاجتماع ذاك. يقول برقاوي واصفاً حال المتفلْسف العربي: «وهو إذ يفكِّر بعالَمه المعيش الضيِّق، فإنّه يُفكِّر فيه بأدوات لم ينتجها واقعه، وليس في طاقة مُجتمعه أن يتأثّر بها. فيعيش كما قلنا اغترابه المحض. وهنا بالذات لا يكون للفلسفة جدوى راهنة، وربّما تفعل فعلها في المستقبل».
ليس في إمكان التفكير الفلسفي أن يصير تفكيراً فعّالاً إلّا من ضمن مجتمعٍ يملك قابليّة حيازة الوعي الفلسفي، بما هو وعي يعتقد بضرورة التجاوز. ومن ثمّ، تصير الفلسفة ذات جدوى متى أمست قادرة على الكشف عن المشكلات الحقيقيّة، وهو الأمر الذي حدا ببرقاوي للقول، «إنّني إذ أُحدِّد المشكلات الفلسفيّة المعيشة التي تجعل من الفلسفة ذات جدوى، فهذا لا يعني أسْرَ الوعي الفلسفيّ العربيّ بها. كلّ ما أعنيه، وبرؤيتي ليس إلّا، أنّي لا أضع شروطاً لأحد كي يتفلْسف كما يريد، ولا أفرض على أحد المشكلات التي أراها قمينة بالنَّظر. كلّ ما في الأمر أجيب عن سؤال: كيف تصير الفلسفة ذات جدوى من وجهة نظري».

* أستاذ/ باحث من المغرب
(بالتعاون مع مؤسسة الفكر العربي- نشرة «أفق»)