بيروت - لبنان

اخر الأخبار

1 تموز 2022 12:00ص في مئويّة التنويريّ فرح أنطون

فرح أنطون فرح أنطون
حجم الخط
سليمان بختي*

تُصادف هذه السنة 2022 مئويّة وفاة فرح أنطون (1874 - 1922) الرائد التنويريّ اللّبنانيّ - المصريّ المعروف، وأحد أعلام النهضة العربيّة الثقافية في زمن الدولة العثمانيّة: مفكّر، منظّر فلسفيّ، صحافيّ، روائيّ، مسرحيّ، ناقد، مُترجِم وكاتب سياسيّ واجتماعيّ عميق ومؤثّر.
كان أوّل من أنشأ مجلّة تقتصر على الأدب هي مجلّة «الجامعة»؛ وأوّل من كَتَبَ مسرحيّة اجتماعيّة هي «مصر القديمة ومصر الجديدة»؛ وأوّل من عرّف الثقافة العربيّة بكارل ماركس وتولستوي، من دون أن يُقلّل ذلك من حماسته لابن رشد؛ وأوّل مَن شارَكَ في أهمّ مُناظرة دينيّة - مدنيّة بينه وبين الإمام محمّد عبده، الأهمّ بين المُجدّدين للفقه الإسلاميّ في بداية القرن الماضي، واستطاع انتزاع إعجاب الإمام نفسه وتقديره له بعد المُناظَرة الكبرى التي انطلقت دوافعها أساساً من اتّهاماتٍ جائرة لفرح أنطون.
وهو صاحب الهجرتَيْن، من لبنان إلى مصر، ومن مصر إلى نيويورك، ومن نيويورك إلى مصر ثانية. وفي رأي المفكّر الراحل هشام شرابي، كان فرح أنطون أوّل كاتب مسيحي مشرقي يدعو علناً إلى تفسيرٍ عقلاني علمي للقرآن الكريم، مُستشهِداً بابن رشد قائلاً: «إنّ هذه السور القرآنيّة التي تبدو مُخالِفة للإثبات والمنطق يجب أن تؤوّل». وفي كتابه «الفكر العربي في عصر النهضة» اعتبره ألبرت حوراني، مع شبلي الشميّل، في طليعة العلمانيّين العرب. أمّا الناقد مارون عبّود، فكَتب عنه وعلى طريقته: «اشتراكي محموم، حرارته دائماً فوق الأربعين، وهو أبو النهضة الفكريّة الحديثة في المشرق العربي». أمّا عبّاس محمود العقّاد فقال فيه: «فرح أنطون طليعة مبكّرة من طلائع النهضة». وفي رأي المفكّر الطيّب تيزيني أنّه «انطلق من تحرير العقول من التعصّب الديني وضيق الأُفق العقلي الذي يُمثّل المدخل إلى فهم كيفيّة تحقيق التقدّم في المشرق».
وُلد فرح أنطون في مدينة طرابلس اللّبنانيّة. والده إلياس كان يعمل في تجارة الأخشاب. تلقّى دروسه الأولى في المدرسة الابتدائيّة الأرثوذكسيّة، ثمّ التحقَ بمعهد دير كفتين في منطقة الكورة، وكان معهداً ذائع الصيت بمناهجه العلميّة التدريسيّة ومستوى أساتذته وتنوّعهم. قرأ مبكّراً لروسو وماركس ونيتشه وتولستوي ورينان وفولتير، إلى جانب ابن رشد والغزالي وعمر الخيّام وابن طفيل. وقد مكّنته هذه القراءات من بناء ثقافة ذاتيّة واسعة وعميقة، انحاز خلالها للإنسان وقيمته وكرامته دونما أيّ اعتبار لجنسٍ ولونٍ وعرقٍ وعقيدة.
في العام 1897 سافر فرح أنطون الى الإسكندريّة في مصر هَرباً من الاضْطهاد العثماني، وعمل في الصحافة والأدب، وأسّس مجلّة «الجامعة» وتولّى تحرير «صدى الأهرام» لستّة أشهر. وأنشأ لشقيقته روز أنطون حدّاد مجلّة «السيّدات»، وكان يكتب فيها بأسماءٍ مُستعارة عدّة. أحبّ فرح أنطون الصحافة ومارَسها في مختلف مراحل حياته، ورأى فيها وظيفتَيْن: الأولى اجتماعيّة والثانية سياسيّة؛ اجتماعيّة، لأنّها تنشر للناس ما يفيدهم في رفْع نفوسهم وإرشادهم إلى طريقهم، وتدبير شؤونهم الزراعيّة والصناعيّة والتجاريّة والاجتماعيّة. وسياسيّة، كونها تنشر لهم خطط الحكومة وأعمالها وأهدافها وما تتضمّنه من خطأ وصواب، وكأنّها الصلة بين الهيئة الحاكمة والمحكومة. وطالما أنّ لكلّ حزب صحفاً تؤيّده وتدفع بتجربته، فقد نشأ عن هذا الاحتكاك ما يُمكن تسميته ناموس البقاء للأفضل. لكنْ، وعلى الرّغم من ذلك، فقد كَتَبَ في «الجامعة» نادباً حظّه، لأنّه اتَّخذ الصحافة مهنةً له: «فإنّ حرفتي البلاغ ووظيفتي النشر. ومن سوء طالعي أنّني اتّخذتُ هذه الحرفة سبيلاً لي في الحياة في بلادنا وحياتنا».
حاول فرح أنطون أن يجيب عن هذا السؤال: «كيف نوفّق بين الإقبال على المدنيّة الغربيّة والمُحافَظة على التقليد الموروث والمواقف الدينيّة المتشدّدة؟». وَضَعَ مفكّرنا أربعة أُسس للخروج من المأزق الحضاري الذي تعيشه المُجتمعات العربيّة هي: الله (أي الدّين)، الوطن، الاتّحاد والارتقاء. في رأيه أنّ الاتّحاد يُحقِّق التقدُّم والرقيّ ولا يكتفي بالعيش في الماضي. هاجَر إلى نيويورك في العام 1907 وأَصدر مجلّة «الجامعة»، ثمّ عاد إلى مصر ثانية، مُتابعاً إصدار «الجامعة» للمرّة الثانية، لكنّها، مع الأسف، توقّفت عن الصدور في العام 1910.
تأثّر الرجل بالفكر الأوروبي، وخصوصاً أفكار مُصلحين من طراز: إرنست رينان وجول سيمون وروسّو وفولتير ومونتسكيو. وكان داعية للتسامُح الديني والاجتماعي عند المسيحيّين والمُسلمين. كما تأثّر بأفكار فلاسفة عرب مثل ابن رشد وابن طفيل والغزالي. وآمنَ بالاشتراكيّة مُعتبراً أنّها تحمل الخلاص للإنسانيّة. بعد توقُّف مجلّة «الجامعة»، استمرَّ فرح أنطون يعمل في الصحافة ويُحرّر في «الجريدة» و«المحروسة» و«اللّواء» و«البلاغ المصري» و«مصر الفتاة» و«الوطن». وكان يُطالب بجلاء الإنكليز عن مصر، ويَكتب مُدافعاً عن وطنه لبنان وبلاد الشام.
بعد الحرب العالميّة الأولى ازداد التضييق على الصحافة، فتوقّف عن الكتابة فيها، وتحوّل إلى العمل في المسرح مع سلامة حجازي وإسكندر فرح. وبعد قيام ثورة 1919 في مصر تألَّف حزب «الوفد»، فانتسب إليه، وعاد من جديد الى ميدان الصحافة، وكَتب هجاءً ضدّ زعيم «الوفد» سعد زغلول، لأنّه أحسّ أنّه يتهاون في مفاوضاته مع الإنكليز.. وقد سأله:
«إلى أين تمضي بالأمانة يا سعد/ وتجني على شعب عليك له العهد؟ رويدك ولا تعبث بآمال أمّة/ شغوف بالاستقلال يهتاجها المجد/ فيا سعد حاذِر أن تزلّ طريقه/ وإلّا فلا سعد هناك ولا وفد».
كان فرح أنطون يتمتّع بجرأة نادرة، وقد كَتب في «الجامعة» غير مرّة مُخاطباً «سادتنا حكّام الشرق» أن يرفعوا هذَين المطلبَيْن إذا أرادوا التقدُّم والفلاح، وهُما: «التحالُف في ما بينهم والعدل في الرعيّة». وأضاف «فالعدل العدل يا حكّام الشرق تضمّدوا به جراح أُممكم، وتبطلوا حجج الغرب في تدخّله بشؤونكم، وتزيلوا كل شكوى لرعيّتكم، وتعمّروا بلادكم. وتسعدوا وطنكم». كان فرح أنطون يعمل بجدٍّ إلى درجة الإجهاد، حتّى تدهورت صحّته وانكمشت عافيته، وعلى الرّغم من ذلك لم يتوقّف؛ رفَضَ أوامر الأطبّاء وتوسّل شقيقته روزا وصهره نقولا حدّاد تفهُّم ذلك، وكان يقول: «لا أرتاح وفيّ عرقٌ ينبض، ولا أطمح في الحياة يوماً واحداً إلّا لأرى هذا الوطن العزيز حرّاً». ذات يوم أُعيد من إدارة جريدة «الأهالي» محمولاً إلى البيت إثر إغماءة أصابته، وبقي طريح الفراش مدّة خمسين يوماً، وفي اليوم الأخير أراد أن يموت على منبره الصحافي، وأصرّ على نقله إلى مكاتب صحيفته قائلاً «لا بأس أن أموت هناك». وهكذا وافاه الأجل صباح الأحد في 3 تمّوز/ يوليو من العام 1922 وهو في الثامنة والأربعين من عمره، ودُفن في القاهرة. من أبرز أعماله: «ابن رشد وفلسفته»، «الحب حتّى الموت»، «الدّين والعِلم والمال»، «الوحش الوحش الوحش»، «أورشليم الجديدة»، «مريم قبل التوبة». أمّا ترجماته فهي: «الكوخ الهندي»، «بول وفرجيني»، «أتالا»، «ابن الشعب»، «نهضة الأسد»، «تاريخ المسيح»، «تاريخ الرسل» وغيرها.
عَكست ثقافة فرح أنطون انحيازه للإنسان والعقل، وأراد نشْر النظريّات العلميّة والفلسفيّة والاجتماعيّة التي هزّت الغرب، علّ الشرق ينتفض ويخطو بدوره نحو التحرُّر الفكري والرقيّ الاجتماعي والعلمي.. وكان شعاره حتّى الرمق الأخير: «نهضة الشرق».
شدّت كتاباتُ الرجل بجرأتها وحمولاتها الإصلاحيّة نُخَبَ مشرق العالَم العربي ومَغربه، فرأوا فيها ضالّتهم في التنمية المُستدامة والتقدُّم الحضاري الصميمي. وكان يرى في الفساد آفة تُخرِّب النفوس والقلوب وتشغل الناس عن المصالح والمَنافع الحقيقيّة للأمّة. على أنّ هذه الأفكار أثارت، في المقابل، ردود فعلِ بعض الكُتّاب السلفيّين ورجال الدين المتطرّفين، مُسلمين ومسيحيّين، فانتقدوه ورموه بالكفر والإلحاد.
ونستدرك فنقول إنّ مجمل حياة فرح أنطون كانت عبارة عن معارك متواصلة من أجل الحريّة ودفاعاً عن العقل والعلم. ومن فرط هجومها على الظلم والطغيان والاستبداد، تسبّبت مقالاته الناريّة بإغلاق الصحف التي كانت تنشرها، حتّى اشتهر عنه أنّه ضرب الرقم القياسي بإغلاق الصحف الناشرة لمقالاته. وصار مضرب المثل القائل إنّ مقالاً واحداً منه يكفي لإغلاق جريدة. وهكذا فقد تمّ بسببه إغلاق صحف: «مصر الفتاة»، «الأهالي»، «المحروسة» وغيرها. يروي صهره نقولا حدّاد كيف أنّ أحد رموز الاحتلال تحدّث معه لإقناعه بالتزام الهدوء؛ فردّ عليه بكبرياء «نحن مُحاربون، وإذا أقفلتم الصحف التي تنشر مقالاتنا، فنحن سنكتب كراريس وكُتباً، ونؤلِّف كذلك روايات تمثيليّة عن سكّان جزر الواق الواق، والشعب ذكي ويفهم». وعلى الرّغم من ذلك كلّه، فقد أصابه اليأس والإحباط أكثر من مرّة، فكَتب مثلاً: «الناس لاهون بمعدهم وخزائنهم وأنانيّاتهم، فلا تحدّثهم عن شيء آخر».
في اليوم الأوّل من القرن العشرين، كَتب فرح أنطون عن القرن التاسع عشر أنّه كان قرناً ناقصاً، ولمّا سُئل عن السبب؟ أجاب: «لأنّ حقوق الإنسان لا يجوز أن يدوّنها إنسان».
كان همّه نقْل التفكير بعيداً من الغيبيّات والتركيز على الواقع العملي، وكيف نضحّي بالحقيقة القديمة غير المُثبتة لأجل حقيقة شرعيّة جديدة. وميَّز بين ذهنيّة الناس وذهنيّة النخبة. ورَفَضَ قبول العزاء الذي يقدّمه الدّين. وفي رأي بعض النقّاد أنّ عمله الأهمّ كان «الجامعة» بمجلّداتها السبعة التي وقفت في أقلّ من سنتَيْن الى جانب أهمّ مجلّتَيْن في العالَم العربي: «الهلال» و»المقتطف». وعلى غلاف «الجامعة» الصادر في 15 آذار/ مارس 1899 كَتَبَ شعارها القائل: «الله والوطن، الاتّحاد والارتقاء». كما زيَّنها بكلمة جان جاك روسّو: «يكون الرجال كما يريد النساء، فإذا أردتم أن يكونوا عظماء وفضلاء، فعلِّموا النساء ما هي العظمة والفضيلة». وزيَّنها بكلمة ثانية لجول سيمون تقول: «ليست وظيفة المدرسة مقصورة على تعليم العِلم فقط، فإنّ بثّ الفضيلة والإقدام من أخصّ وظائف المدرسة».
شارَك فرح أنطون في سائر المعارك الفكريّة التي شهدتها مصر في زمانه، وكان له أكثر من اتّجاه وخصوم وأنصار. وذلك كلّه عزَّز في نفسه الثقة والجرأة وإباء النَّفس. كان الرجل رائداً والرائد لا يكذّب أهله. وكان سليل التحدّي والاستجابة لآمال أمّته ومُجتمعه. صَدَرَ من أعماله الكثيرة مختارات تولّت نشرها «دار صادر» في الخمسينيّات من القرن الماضي، ثمّ قدّمتها كاملة «دار الطليعة» في مجلّدَين، وهي مفقودة اليوم أو ناقصة في المكتبات.
والأمل في مئويّة فرح أنطون، أن تُنشَر هذه الأعمال كاملة، مع آراء وشروحات دالّة، ذلك أنّ تكريم الكاتب الكبير، يكون بنشْر أعماله.
* كاتب من لبنان
(بالتعاون مع مؤسسة الفكر العربي‎ - نشرة «أفق»)