بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 تشرين الأول 2022 12:00ص قراءة في رواية «الديار» للروائية الأميركية توني موريسون

توني موريسون توني موريسون
حجم الخط
ترصد الروائية «توني موريسون» في روايتها «الديار»، الصادرة عن شركة المطبوعات للنشر والتوزيع، الحروب الاجتماعية التي تعاني منها الفئة المستضعفة من الشعب، والحروب الخارجية في الحياة الإميركية، والتي تؤدي الى تمزق الانسانية، وان تمسّكت الأوطان بأفرادها، فالديار هي الداخل الذي لا نشعر بقيمته أو صلاحيته، إلا بعد أن نفقده أو نصاب بخسارة الزمن الذي لا تدرك قيمته إلا بعد معاناة تجعلنا نعيد النظر في تصحيح الماضي، لنحيا الحاضر في توافق وقناعة ورضى، وان تركتنا الخسارات كالأشلاء الأحياء، كما هي الحال مع سي أخت فرانك التي فقدت رحمها نتيجة التجارب الطبية التي أجراها الطبيب على مستخدمة لا تملك في الحياة من سبل العيش ما يمكنها لتكون قوية وتناضل من أجل البقاء إلا صديقتها سارة والأخ المحارب او المشارك في الحرب الكورية، فهل التكاتف في الحياة هو لفئات تصنفها «توني موريسون» تبعا للواقع الحقيقي الذي نحياه ودون تدخل مصطنع من الشخوص، إنما بإضاءات لزوايا اجتماعية نكتشف ان الشعوب برمّتها تعيشها كما هي في الرواية، وما العشوائيات التي لا يشعر بمعاناتها إلا سكانها في رمزية العنوان ودلالته «الديار» أو البيوت والأوطان المهددة بالزوال بين الحين والآخر.
العبودية في العلاقات الاجتماعية شره في الأنفس التي اعتادت الامتلاك، وما الإنسان إلا كالمحارب المحشوة ذاكرته بالكثير مما لا يمكن تصحيحه، لان الوعي بمراحله الأولى يحتاج الى النضج والوضوح في الرؤية، وهذا ما حدث لفرانك الذي استطاع الهروب من مستشفى المجانين بلمحات الاتجار بالأعضاء البشرية، الى الرعاية الكنيسية التي لا تميّز بين الإنسان والإنسان، إلا لتبقي على رمق الإنسانية دون عنصرية، ليتعافى الشعب من تلويث الحروب بكافة أنواعها «ميدان الحرب يحتوي، على الأقل على هدف وإثارة وجرأة وبعض الحظ في الربح الى جانب حظوظ كثيرة من الخسارة» فالأهداف من وراء الحروب معروفة مسبقا، أما الحروب في الحياة الاجتماعية أو بمعنى آخر عبر مسيرة الحياة الملفعة بالفقر والتعاسة والتشرّد والمقاييس التي تحتاج الى دراسة، وإعادة نظر لتتوافق مع الإنسان دون تمييز في الطبقات الاجتماعية التي تعاني ما تعانيه من سوء الأخلاق، كما حدث في مبارزة الابن والأب والاجبار على القتل من أجل البقاء أيضا. إذ استطاعت «توني موريسون» بلوغ قمة السرد بواقعية تسللت إليها الايحاءات المغطاة بالكثير من المقارنات أو لمس الجرح بأسلوب شعبي محبب الى القرّاء، وكأن الرواية عبارة عن فكرة تناقشها مع القارئ لتصل الى الإقناع ببساطة الحكاية التي كنا نسمعها من الجدات اللواتي يتصفن حاليا بالقساوة وبالتشدد في مجتمع يئنّ بالصراع، وبالخلل النفسي الشبيه بمعاناة فرانك النفسية بعد الصور التي تمر في ذاكرته أثناء الحرب على كوريا.
خيوط روائية محبوكة بشدّة وإيجاز دون أي طمس لأحداث متتابعة في خط سير زمني عبر أمكنة تنقل منها وإليها فرانك، وغاص فيها الاحساس بالتنوع المكاني وأهدافه الروائية، لتصوير الاختلاف في الوطن الواحد، والشيبه بالبيت المكتظ بالسكان بمقارنات جزئية اعتمدتها لا شعوريا بالنسبة الى القارئ عبر مشاهد حية. ليلتقط القارئ قوة الملاحظة الروائية التي تهدف الى إيصال الفكرة ببساطة شديدة دون اللجوء الى الشرح المصاب بشروخ. فهي اعتمدت على البذرة المدفونة في الرواية، وهي الحب الحقيقي الذي يدفع الإنسان الى تصحيح الأخطاء، وإعادة تكوين مسار حياته بالصورة الصحيحة التي تجعله يحترم الأموات والأحياء على السواء، وما الديار الى المكان الذي تمر فيه الأزمنة كلها وما زالت تنتظر الزمن الصحيح لينتصب الإنسان ويقف بكرامته في التاريخ الذي يبقي كل شيء في الذاكرة الحيّة.
طريق العودة يختلف عن طريق الذهاب لان الزمن يلعب لعبته مع الإنسان، ويجعله يستوضح المعالم كلما أصيب بغبش الرؤية أو عمى الألوان الذي خاف منه فرانك في طريق عودته لإنقاذ أخته. بينما لم يكن يراه وهو يقتل الفتاة الكورية بدم بارد، ليدرك فيما بعد قيمة الخسارة التي تصيب المقاتل، ولا يشعر بها القائد لفروقات بينهما، فالقائد الفاشل هو الذي يخسر العدد الأكبر من المقاتلين، وان ربح الحرب. وفرانك أراد أن يربح نفسه وشقيقته، فالإنسان هو القائد في مسيرته وعليه الحفاظ على أمكنته ومحيطه كما ينبغي. فما زالت توني موريسون تعالج العبودية في الداخل والخارج في النفس وفي السلوك الاجتماعي حتى أعادت فرانك الى دياره بل وتصحيح المشهد الذي عجز عن تصحيحه في سن المراهقة وبناء القيم في العائلة والقرية والوطن.
تلك عبودية أي العبودية التي نتمسّك بها لتنفيذ قرارات الآخرين دون قناعة منا بوجوب ذلك، وهي التي نعيشها في تفاصيل الحياة دون البحث عن الإنسان الحر الكامن في الداخل، إذ تتوقف توني موريسون لتقول «يمكنك الاستمرار في الكتابة، لكنني أعتقد ان عليك أن تعرف الحقيقة». فهل يستطيع القارئ معرفة معنى الديار أو أهمية المكان عبر تاريخ الإنسانية الطويل والمحفوف بالحروب والصراعات التي تصيب المجتمعات بالخلل وعدم التوازن الحقيقي في الحياة الإنسانية؟..
رواية حققت أهدافها الإنسانية لبناء الديار القادر على احتواء الأفراد بأمن وسلام ودون أي خوف من الحاضر أو المستقبل وان برؤية دمجتها مع الحرب الكورية دون التوسع في إيجابياتها وسلبياتها، ولكنها توحي بأن الوطن الذي لا يحمي أفراده في الداخل لن يربح أي حربا في الخارج طالما الإنسان فيه تائه ومشرّد وممزّق، وغير قادر على الموت فيه بعزّة وكرامة.