بيروت - لبنان

اخر الأخبار

23 نيسان 2021 12:01ص قصّة الخوارزميّات (2/2)

حجم الخط
د. عبد الإله الديومجي*


مَعالِم خوارزميّة مُختارة

{ التراث البابليّ: من الثابت في التاريخ أنّ البابليّين استخدموا النظام الستّيني في حِساباتهم، والذي لا يزال مُستخدماً في حسابات الزمن (الساعات والدقائق والثواني). ومن الثابت أيضاً أنّ البابليّين اكتشفوا نظريّة المُثلَّث قائم الزاوية قبل فيثاغورس بألف سنة، وذلك بحسب ما دلّت التنقيبات التي أُجريت في تلّ حرمل في العراق في خمسينيّات القرن الماضي (الديومجي عبد الإله، «الخوارزميات في التاريخ»، مجلّة الجامعة - جامعة الموصل العدد 8 السنة الرابعة، أيّار/ مايو 1974).

والخوارزميّات والسيرورات المُكتشَفة في بابل تَصِفُ طُرق الاحتساب مع أمثلةٍ للتوضيح. وقد اكتُشفَ العديدُ من هذه الخوارزميّات على هيئة رُقيمات محفوظٌ قسمٌ منها في المتحف البريطاني وقسمٌ آخر في متحف ستاتليش الألماني واللّوفر الفرنسي وأخرى في المتحف العراقي.

اكتُشفت في الخوارزميّات البابليّة أيضاً أمثلة على تكدُّس البيانات stacking والاستنساخ copying والتخزين المؤقَّت temporary storage والتعويض substitution والتعيين assignment والتّكرار iteration. ولأنّ البابليّين ما كانوا قد تعرّفوا على الأرقام السالِبة والكيان الرقمي للصفر، لم تُكتشف حالاتٌ لجُمل شرطيّة مثل:

if x ≥ 0 go to step n

أو

if x ≤ 0 go to step n

{ التراث الإغريقيّ: خوارزميّة إقليدس لإيجاد القاسِم المُشترَك الأعظم:

ارتبطَ أسم إقليدس بالخوارزميّة عام 1950 وهي، بعد التعديل، كالتالي:

المُدخلات المُعطاة للخوارزميّة: رقمان صحيحان غير سالِبَين (u,v)

E1. If v = 0, output u and stop

,E2. Set r → remainder (u,v)

then set u→ v

then set v→ r and go back to E1. end

وسبب التعديل الذي أُجري عام 1950 هو أنّ إقليدس لم يكُن على دراية بالكيان الصفريّ.

{ من التراث الإسلاميّ - القرآن الكريم:

وَرَدَ في سورة النساء (الآيتان 10 و11) التالي:

{(01) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً. (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}.

عند التمعُّن في هذه الآيات من ناحية الشكل والبنية ومُقارنتها بشكل البرمجيّات وبنيتها (الخوارزميّات) المكتوبة بلغات البَرمَجة المُتداوَلة، نُلاحِظ:

- التسلسُل الدقيق للجُمل، والذي يصلح للتقسيم إلى خوارزميّات فرعيّة subroutines، والترابُط من خلال الاحتمالات.

- وجود جُمل شرطيّة من النّوعَين

.... If ...... then

....... If ........ then ...... else

- جُمل اعتراضيّة مُماثِلة لوضْع التعليقات التوضيحيّة ما بين الأوامر comments.

{ ألفيّة ابن مالك في قواعد اللّغة:

هي متن شعريّ من نَظْمِ الإمام محمّد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني (1200 ميلاديّة تقريباً). وُلِد وتَرعرعَ في مدينة جيان الإسبانيّة، ثمّ غادرها إلى بلاد الشام وقام بتعليم اللّغة العربيّة في مدينتَيْ حلب وحماه. ثمّ استقرَّ بعدها في دمشق، حيث أَنتج أهمّ بحوثه اللّغويّة والأدبيّة، ومنها الألفيّة، في المدرسة العادليّة في دمشق. وتُعتبر الألفيّة من أهمّ المنظومات النحويّة واللّغويّة، جَمَعَ فيها خلاصة علمَي النحو والتصريف، في أرجوزة. وحَظيت ألفيّة ابن مالك بقبولٍ واسعٍ لدى دارسي النحو العربي، فحرصوا على حفْظها وشرْحها أكثر من غيرها من المتون النحويّة، وذلك لما تميَّزت به من تنظيم، وسهولة الألفاظ، والإحاطة بالقواعد النحويّة والصرفيّة، مع ترتيبٍ مُحكم لموضوعات النحو، واستشهادٍ دقيق لكلٍّ منها، فهي تُدرَّس في العديد من المَدارس والمَعاهِد الدينيّة واللّغويّة (ar.wikipedia.org).

وعند نشوء لغات البَرْمَجة في خمسينيّات القرن الماضي وستّينيّاته، برزت الحاجة إلى تعريف لغات البَرمجة وقواعد وإعراب جملها من خلال «لغة عليا – metalanguage. قام مُصمِّمو لغة Algol 60 باستحداث لغة خاصّة لتعريف قواعد الجُمل البَرمجيّة للّغة سُمِّيَت Backus Normal Form - BNF نسبةً لاسمَيْ مُصمِّمَيْها. أَعقب ذلك تصميم لغة عليا أخرى لتعريف لغة PL/1 من قِبَلِ شركة IBM سُمِّيَت Vienna Definition Language - VDL.

المُتمعِّن بالألفيّة يُلاحِظ الشبه بينها وبين خوارزميّات اللّغات العليا لتعريف لغات البَرْمَجة. واختيار ابن مالك القصيدة الشعريّة لتعريف قواعد اللّغة فيه الكثير من الذكاء. فالشعر يُعطي النصَّ صفة الدقّة وسهولة الحفْظ والديمومة. فلو أنّ ابن مالك ألَّفَ كِتاباً في النحو والصرف لما تناقلته الأجيال بالسهولة والدقّة المَطلوبَتيْن.

تتكوَّن الألفيّة من ثمانين فصلاً، تبدأ بالتعريف بالنّاظِم، ثمّ المُقدّمة، ويأتي الفصل الأوّل بعدها الذي يُعرِّف الكلام وما يتألَّف منه، يليه فصل المُعرَب والمَبنيّ ثمّ النكرة والمَعرفة وصولاً إلى الفصل الثمانين عن الإدغام.

على سبيل المثال، يوجد تشابهٌ واضحٌ بين لغة ابن مالك الشعريّة ولغة BNF. ففي تعريف حروف الجرّ، كتبَ ابن مالك:

هاك حروف الجرّ وهي من إلى

حتّى خلا حاشا عدا في عن على

مذ منذ رب اللّام كي أو تا

الكاف البا لعلّ متى

ولو حاولنا كِتابة هذَيْن البَيتَيْن بلغة BNF لنَتَجَ:

حروف الجر= منإلىحتّىخلاحاشاعدافيعنعلىمذمنذرب اللّامكيأوتاالكافالبالعلّمتى.

خلاصة القول إنّه على الرّغم من عظمة عالِم الرياضيّات محمّد بن موسى الخوارزمي، علينا أن نعترف بأنّ مفهوم الخوارزميّة كوسيلةٍ وصفيّة للحلول الحسابيّة كان معروفاً في الحضارات البابليّة والمصريّة والصينيّة والإغريقيّة قبل عصر الخوارزمي (العبّاسي) بقرون، وبأنّ التواصُل الحضاري والعِلمي مُستمِرٌّ وغير مُقيَّد بحدود سياسيّة أو جغرافيّة. فحضارةُ العلوم وتطوُّرُها وتناقُلُها سَيرورةٌ قد نَعرف بعضاً من بداياتها، لكنّها مُستمرّة باستمرار الحياة. ولعلّ أبرز ما يستحقّ الذكر في هذا السياق، أنّ بَيت الحِكمة في عهد المأمون لم يُفرِّق بين مُسلم ومسيحي أو بين يهودي ومجوسي أو من دينٍ آخر. فقد عملوا جميعهم من أجل العِلم والمَعرفة دونما تمييز، بعكس بَيت الحِكمة الذي أسَّسه الفاطميّون في مصر، والذي اقتصر بعد فترة من تأسيسه على الباحثين التابعين لمَذهب الدولة.

في الختام، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ انتشار تكنولوجيّات الإنترنت والجوّال، ومَكائن البحث على الإنترنت، والتقدُّم الهائل المُحرَز في مجال الذكاء الاصطناعي والروبوتات خلال العقدَيْن الأخيرَيْن، صاحبَه انتشارٌ واسعٌ مُوازٍ في استخدام مُصطلح «الخوارزميّات»، ليس على المستويَيْن الأكاديمي والمِهني فحسب، بل على المستوى الشعبيّ أيضاً، حيث باتت الكلمة مُتداوَلةً في أوساط العامّة كما في الأوساط الثقافيّة والاجتماعيّة والعِلميّة كافّة.



--------------

* مختص في تقنيات المعلومات والاتصالات - العراق

بالتنسيق مع (مؤسسة الفكر العربي)

نشرة «أفق»

أخبار ذات صلة