بيروت - لبنان

اخر الأخبار

2 كانون الأول 2021 12:01ص كيف أثرى اللّبنانيّون الصحافة المصريّة؟

حجم الخط
ممدوح مبروك*


على مدى تاريخها الحافل، زخرت الصحافة المصريّة بالعديد من الصحافيّين اللّبنانيّين الذين كان لهم أبلغ الأثر في تطويرها، فقد تعلَّم عنهم المصريّون الكثير من فنون الصحافة، وجودة الطباعة التي اشتهروا بها على مرّ السنين.

عمل بعضهم في الصحف المصريّة، بينما أصدر البعض الآخر صُحفاً خاصّة بهم. ومن أشهر تلك الصحف على الإطلاق صحيفة «الأهرام» التي أصدرها الأخوان اللّبنانيّان «سليم تقلا» و«بشارة تقلا» في مدينة الإسكندريّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وبفضل المبادئ التي أرساها الآباء المؤسّسون وسار على نَهجِها مَن تَبعهم، استطاعت «الأهرام» الاستمرار والنهوض إلى أن صارت واحدة من أكبر المؤسّسات الصحافيّة في مصر والوطن العربيّ.

عندما عَرفت مدينةُ الإسكندريّة الصحافةَ، عَرفتها باللّغة الأجنبيّة، حيث كانت تعيش العديد من الجاليات التي حرصت على إصدار صحفٍ بلغتها؛ ففي العام 1833 صدرت صحيفة «لومنيور إجبسيان» باللّغة الفرنسيّة، وحَظيت هذه الصحيفة بعناية محمد علي باشا الذي كان يمدُّها بالمال اللّازم، ويستخدمها في نِزاعه ضدّ السلطان العثماني محمود الثاني.

استمرَّت الجاليات المُقيمة في الإسكندريّة في إصدار المزيد من الصحف الأجنبيّة، حتّى بلغ عددها في العام 1862 حوالى 12 صحيفة، وكان أغلبها باللّغة الفرنسيّة، وكثيراً ما كانت تُهاجِم الحُكّام، ولا سيّما في عهد الخديوي إسماعيل، ما جَعله حريصاً على إصدار صحف باللّغات الأجنبيّة للردّ على هذه الصحف واستخدامها للدعاية السياسيّة والثقافيّة.

ساعَدَ ظهور تلك الصحف على انتعاش الصحافة في مدينة الإسكندريّة وزيادة الوعي الثقافي فيها، وتعزيز الإقبال على القراءة لدى جمهور القرّاء في مصر، إلّا أنّ عجْز تلك الصُّحف عن إشباع رغبة الأهالي في التعرُّف إلى أهمّ الأخبار والأحداث، بخاصّة التجاريّة منها، أدّى إلى إصدار الخديوي إسماعيل العديد من الصحف باللّغة العربيّة والتي تركَّزت غالبيّتها في القاهرة، نظراً لكثرة عدد المُثقّفين والقرّاء فيها. أمّا الإسكندريّة، فكان نصيبها من هذه الصّحف أقلّ.

في تلك الفترة، شَهدت مصر هجرةً واسعة من قبل الشوام إليها، وكان من بينهم عددٌ من المُثقّفين والأدباء ممن وفدوا هَرَباً من ضغْط السلطان عبد الحميد على حريّة الكلمة في بلاد الشام. اختار معظمهم الإقامة في الإسكندريّة، حيث كانت تتركّز جاليةٌ شاميّة كبيرة تعمل في التجارة، وفضَّلَ هؤلاء المُثقّفون الإقامة في جوارهم؛ هذا فضلاً عن أنّ الإسكندريّة كانت تضجّ في تلك الفترة بالمَطابع والصحف الأجنبيّة وتفتقر إلى مثيلاها بالعربيّة؛ ففكَّر البعض في إنشاء مَطابع تجاريّة كمَصدرٍ للرزق، وفي الوقت نفسه إصدار صحف عربيّة تعمل كوسيلة اتّصال بينهم وبين أعضاء الجالية الشاميّة المُتفرِّقة في أنحاء «القُطر المصري» وخارجه.

ظهرت الصحافة العربيّة للمرّة الأولى في الإسكندريّة على يد سليم حموي الذي أَنشأ مطبعةً تجاريّة، وأصدر صحيفةً عربيّة اسمها «الكوكب الشرقي» في آب (أغسطس) من العام 1873، وكان هدف حموي من صدورها ربْط الجالية الشاميّة داخل القطر المصري والترويج لمَطبعته التجاريّة.

شجَّعَ صدورُ «الكوكب الشرقي» العديدَ من الشوام على إصدار المَزيد من الصحف العربيّة؛ فخلال الفترة من 1876 حتّى 1879 صدرت حوالى 7 صحف هي: «الأهرام»، «صدى الأهرام»، «انتقال مصر»، «التجارة»، «الإسكندريّة»، «مصر الفتاة» و«الوقت».

الأهرام: صحيفة ومدرسة

صدرَ العدد الأوّل من «الأهرام» يوم السبت 5 آب (أغسطس) من العام 1876 على يد الأخوَيْن اللّبنانيَّيْن سليم وبشارة تقلا في شارع البورصة المُتفرِّع من ميدان القناصل (المَنشيّة حاليّاً)، وكانت الصحيفة في البداية أسبوعيّة ثمّ تطوَّرت إلى أن أصبحت يوميّة.

كان يَوم السبت، هو مَوعِد الصدور الأسبوعي للصحيفة، إلّا أنّ تعذُّر وصولها إلى بلاد الشام في وقتٍ مبكّر نسبيّاً، بداعي أمور لوجستيّة تتعلَّق بالمِلاحة، جَعَلَها تصدر يوم الجمعة في بعض الأحيان. وقد كانت تصدر في البداية في أربع صفحات مكتوبة بخطٍّ كبير، ثمّ تحوَّلت إلى استخدام خطٍّ أصغر لنشْر أكبر كميّة من الموضوعات، كما استَكتبتْ عدداً من كِبار الكتّاب آنذاك من أمثال: الإمام محمّد عبده وجمال الدّين الأفغاني ويعقوب صنّوع وغيرهم.. وغيرهم.

وجَّهت «الأهرام» في بداية نشأتها اهتمامها الأكبر إلى الأحداث الخارجيّة، واهتمَّت قليلاً بالأحداث المحليّة، وربّما يَرجع ذلك إلى طبيعة الترخيص الذي حصلتْ عليه لصدورها، وهو ما جَعَلَها تُرسل وكلاءً لها في 12 مدينة في الشام، في حين لم يتعدَّ عددُ وكلائها في مصر ستّة أشخاص فقط. وعلى الرّغم من ذلك، أَدْرَكَ مؤسّسوها أنّه لا بدّ من ضخّ دماء مصريّة في الجريدة حتّى تستطيع الاستمرار والمُنافَسة، وفي الوقت نفسه اهتمَّت بالتركيز على الأخبار المهمّة الرصينة فقط.

ابتكَرت «الأهرام» بعض الفنون الصحافيّة التي لم تكُن تعرِفها الصحافة المصريّة من قَبل مثل: الحديث الصحافي، بخاصّة مع كِبار السياسيّين ورجال الفكر، ومن أبرز تلك الأحاديث الحوار الذي أجراه بشارة تقلا مع الخديوي إسماعيل.

تميَّز أسلوبُ «الأهرام» عن غيرها من الصحف المُعاصِرة لها بالبساطة والوضوح؛ إذ استطاع الأخوان تقلا ابتكار أسلوبٍ جديد في الكتابة، يَبتعِد عن السَّجع وأساليب الكتابة التقليديّة، ويعتمد اللّغة الرصينة السهلة التي تُخاطب جميع القرّاء على اختلاف ثقافاتهم.

واجَهت «الأهرام» في بدايتها خصومةً مع القصر عندما نَشرت مقالاً بعنوان: «ظلم الفلّاح» الذي انتقدَتْ فيه السلوك المالي للخديوي إسماعيل، وقد تسبَّب ذلك في إلقاء القبض على بشارة تقلا، ثمّ أُفرج عنه في أيّار (مايو) 1879 بعد تدخُّل القنصل الفرنسي. وكان لهذه الواقعة أثرها في ما بعد، إذ انتَهجت الصحيفة سياسةً مُحايدة إلى حدّ كبير، تُعطي المعلومة، وتتجنَّب الرأي.

في 3 كانون الثاني (يناير)1881، صدرت صحيفة «الأهرام» اليوميّة في الإسكندريّة، وحمل هذا العدد الرقم (1003). ويذهب المؤرِّخ د. يونان لبيب رزق في كِتابه «الأهرام ديوان الحياة المُعاصِرة»، إلى أنّ هذا الرقم هو تسلْسلٌ لجريدة «الأهرام الأسبوعيّة»، وجريدة «صدى الأهرام»، وجريدة «الوقت» التي أصدرها الأخوان تقلا.

في تشرين الثاني (نوفمبر) 1899، انتقلت «الأهرام» إلى مقرّها في القاهرة في شارع مظلوم، وعُرف عنها تأييدها للنفوذ الثقافي والاقتصادي الفرنسي في مصر، ولم يكُن ذلك ناجِماً عن مَيلها الشديد إلى فرنسا فحسب، بقدر ما كان ناجِماً عن كراهيّتها للاحتلال البريطاني، على الرّغم من انتقادها الشديد للثورة العرابيّة وزعيمها الشهير أحمد عرابي.

هاجَمت «الأهرام» الاحتلال البريطاني ووقَفت ضدّ سياسة إخلاء السودان من الجيش المصري، فتعطَّلت شَهراً عن الصدور، بسبب هذا المَوقف، وناصَرت الزعيمَ مصطفى كامل، وفَتحت صفحاتها لنشْر مَقالاته. كما حارَبت البريطانيين في خُططهم في قناة السويس والتعليم، ونادَت في خلال ثورة 1919 بأنّها صحيفة مصريّة للمصريّين وفَتحت صفحاتها للكتابة الوطنيّة، واعتبرَ البعضُ أنّ الفترة التي عاصَرت ثورة 1919 كانت استثنائيّة في حياة «الأهرام» لأنّها كانت لِسانَ حالِ حزب الوفد المصري، إلّا أنّها كانت تَنطلق من مَوقفٍ وطني قومي وليس من موقف حزبي.

في فترة ما بين الحربَيْن العالَميّتَيْن الأولى والثانية، زادت «الأهرام» من عدد صفحاتها وتوسَّعت في مُعالَجة الموضوعات كافّة، وأَنشأت للمرّة الأولى شبكةً من المُراسِلين في مُختلف أنحاء العالَم، وسبَقت جميع الصحف باستعمالها ماكينات طباعة مُتقدِّمة في العام 1920، كما أَفسحت صفحاتها للشعراء الذين ذاع صيتهم، فنَشرت مُعظم قصائد: خليل مطران، وأحمد شوقي، وسمَّت ديوانه «الشوقيّات»، ولقَّبت حافظ إبراهيم بـ «شاعر النيل»، وخليل مطران بـ «شاعر القطرَيْن».

تعاقَب على رئاسة تحرير «الأهرام» عددٌ من الروّاد الكُتّاب والأدباء ومنهم: سليم تقلا، وخليل مطران، وداود بركات، الذي استمرَّ مُحرِّراً ورئيساً للتحرير فيها مدّة 35 عاماً، وكان يُعدّ مَرجعاً لكلّ حادث في مصر منذ احتلّها الإنكليز، وجبرائيل تقلا الذي نقلَ «الأهرام» نقلةً كبيرة واستخدمَ أرباحها في تدعيم وجودها الصحافي بشراء أحدَث المَطابِع، مُجدِّداً بذلك الصحافة شكلاً وموضوعاً.

رئِس تحرير «الأهرام» أيضاً الأديب أنطون الجميّل الذي كان يؤمن بالوقوف في الوسط إذا تنافرت الأحزاب، وبضرورة أن يمتلك الصحافي الحسّ الأدبي ووجوب الأمانة الصحافيّة قبل السبق الصحافي، إذ كان شِعار «الصحافة أوّلاً» في «الأهرام» هو الغالب فيها، فلم يكُن لها لَونٌ معيّن، لكنّها كانت تجمع في كلّ صفحاتها كلّ الألوان وتقدّمها في براعة وأمانة.

وتعاقب على رئاسة التحرير في «الأهرام» أيضاً كلٌّ من الصحافيّين: أحمد الصاوي محمّد، وعزيز ميرزا، ومحمّد حسنين هيكل، وعلي أمين، وأحمد بهاء الدّين، ويوسف السباعي، وعلي حمدي الجمّال وغيرهم.

تحت رئاسة تحرير محمّد حسنين هيكل، خَطَت «الأهرام» منذ خمسينيّات القرن الماضي، خطواتٍ واسعة في تدعيم وجودها كصحيفة قوميّة تُعبِّر إلى حدٍّ كبير عن رأي الدولة بعد عمليّة تأميم الصحافة في العام 1960 وإلحاق ملكيّتها بالدولة، ومن خلال صفحاتها كان البعض يتعرَّف إلى رأي الدولة المصريّة ومواقفها.

عندما انتقَلَت «الأهرام» إلى مَبناها الجديد في شارع الجلاء في شباط (فبراير) 1968، شهدت توسُّعاً كبيراً وتدعيماً لوجودها المؤسّسيّ، فوسَّعت خدماتِها وأَنشات عدداً من المَراكِز المُتخصِّصة مثل: مَركَز الأهرام للإدارة والحاسبات الإلكترونيّة، ومَركَز الأهرام للدراسات السياسيّة والاستراتيجيّة، ومَركَز الميكروفيلم في آذار (مارس) 1969 الذى يحتفظ بأعداد «الأهرام» منذ نشأتها، ومَركَز الترجمة والنشر في العام 1975 الذي بلغ فيه عدد اللّغات التي تتمّ الترجمة إليها ومنها: 14 لغة في مختلف فروع المَعرِفة والعِلم، وهو مَركَز اعتمدته الأُمم المُتّحدة والمُنظّمات التّابعة لها في ترجمة وثائقها ودراستها، كما أَنشأت عدداً من المؤسّسات التجاريّة منها: وكالة الأهرام للإعلان، ومَطابع الأهرام التجاريّة.

في العام 1993، افتتحت «الأهرام» مبنىً جديداً لها في شارع الجلاء؛ وتُصدر مؤسّسة الأهرام الآن عدداً من الصحف والمجلّات منها: الأهرام اليوميّة، والأهرام المسائي، والأهرام ويكلي باللّغة الإنكليزيّة، والأهرام إبدو باللّغة الفرنسيّة، ومجلّة الشباب، والأهرام الاقتصادي، والأهرام الرياضي، والسياسة الدوليّة، ونصف الدنيا، وعلاء الدّين، وأحوال مصريّة، والديمقراطيّة، ولغة العصر، والبيت.

-------------

* باحث سياسي من مصر

بالتعاون مع (مؤسسة الفكر العربي) نشرة «أفق»