بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 أيار 2023 12:00ص لبنان.. تاريخ صعب لبِنية هجينة

حجم الخط
أحمد جابر*

الكتابة التاريخيّة حول لبنان تُعادل السَّيْرَ بين ألغامٍ منثورة عشوائيّاً. هي خطرة وصعبة، ومصدر الخطورة والصعوبة، واقع الرقعة الجغرافيّة التي جَمعتْ مَن كانوا «لبنانيّين» سابقاً، ومَن صاروا «اللّبنانيّين» لاحقاً. «أل» التعريف دلالة على محاولة تأطير وإحاطة ومُقاربة تحديدٍ معلوم لبنية معلومة، لكنّ الإفلات من دائرة الضبط والربط، والوصل والفصل، والفوضى والانسجام، ظلَّت مُلازِمة للنشأة «اللّبنانيّة»، هذه التي ما زالت تزرع أرض الاجتماع جيئةً وذهاباً، فلا تستقرّ على حال طائفيّة، ولا تسكن في هدأة مذهبيّة، ولا تنجح في فتْحِ باب حداثة تدريجيّة، وتدرُّجيّة، أي أنّ النشأة استعصت، وما زالت عصيّة على تجاوُز حدودها النشأويّة بقواها الذاتيّة، وما زالت ترفع السدود في وجه لفح التنوير والتحديث والحداثة، الذي يهبّ عليها من خارج ركائزها الأصليّة الموروثة.
في الكتابة التاريخيّة الصعبة المُشار إليها، يخوض المؤرِّخ اللّبناني د. مسعود ضاهر غمار محاولات مُستدامة، فيبحث عن «الجذور التاريخيّة للمسألة الطائفيّة»، ويدلي بدلوه في «لبنان الاستقلال، الصيغة والميثاق»... هذا الكلام «التأسيسي» الذي يتناول عناوين من الماضي اللّبناني، لا يصير ماضياً لدى المؤرِّخ ضاهر، يعود ذلك إلى سببَيْن أساسيَّيْن من جملة أسباب كثيرة، الأوّل: أن لا ماضي يمضي في لبنان، بل إنّ «اللّبنانّيّات» عادت لتُنتِج ماضيها، أحياناً في صور مجمّلة، وغالباً في صور مشوّهة تفوق تشوّهات الصور البدئيّة.. هذا على صعيد الواقع.
أمّا السبب الثاني، فهو أنّ مؤرّخنا الذي يجمع بين خلفيّة فكريّة شكّلت أساس منهجه ماضياً، حرص على عدم الوقوف بين بنود تلك الخلفيّة، بل حدَّثها، وتجاوزها نحو رحابةٍ فكريّة أوسع، فكان بذلك أميناً لمواكبة الواقع المتحرّك، الذي تعاند «تشكيلته» للبقاء في موقع الثبات، وحراك المؤلّف الذي لم يستخلص ثباتاً أو جموداً بنيويّاً، بل رأى تحرّك المأزق «الكياني»، وعايَنَ أزمة النظام «الرأسمالي الريعي ذا الوجه الطائفي»، ووضع علامة دلالة على سمة النظام الأساسيّة، فاختصرها بالقول «إنّه نظام توليد الأزمات» المُستدامة.
الخلاصة أعلاه، لم تكُن إشارةَ وقفٍ لدى الأستاذ مسعود ضاهر، بل كانت حافزَ بحث، وجرأةَ تقدّمٍ نحو اقتراح مبادرات حلول، ووضوح صياغة ممرّات نجاة من لبنان الموروث الحالي، إلى لبنان «خارج القيد الطائفي»، مع كلّ المقدّمات اللّازمة للوصول إلى هذا «اللّبنان» المنشود.
في هذا السياق، ومن خلال متابعة تفصيليّة كَتَبَ د. ضاهر كتابه «تاريخ لبنان المعاصر.. خارج القيد الطائفي»، فأضاف إلى مكتبة «التجديديّين» مادّة للمناقشة، تدحض عن لبنان الكيان ما يجب دحضه، وتدفع عن اللّبنانيّين صفات مستقاة من خارج سياق تطوّر سيرتهم التاريخيّة الحقيقيّة، وتُعيد الاعتبار إلى «ومضاتٍ» ثقافيّة ومطلبيّة و«اعتراضيّة» وسياسيّة، التمعت في فضاء البلد الذي كان مشطوراً أيّام تدبير «القائمقاميّتَيْن»، ثمّ صار صغيراً في زمن المتصرفيّة، ثمّ خرج ليكون كبيراً في العام 1920، ثمّ تابع ليكون له دستوره في العام 1926، وليكون له استقلاله في العام 1943؛ هي مسيرة طويلة وحافلة، لكنّها حمّالة أوجه، وباعثة على اجتراح قراءات جادّة وهادئة، وحاضنة تسويات كانت واعدة، ثمّ انكسرت وعودها بعد «ليالي الاستقلال الطويلة».

إطلاق صيغة «تقدّموا»

خلاصة القول بانكسار المسيرة اللّبنانيّة، تؤكّدها كلّ الوقائع التي ما زالت تترى حتّى تاريخه، هذا إذا أردنا عرضه على الخلاصات الأساسيّة التي وردت لدى د. ضاهر، لوجدنا ما يشرحها نظريّاً في صيغة استنتاجات عامّة. في هذا السياق، ليس أمراً عارضاً وصف النظام اللّبناني بنظام الأزمات المستولدة تباعاً، وليس عابراً إضافة مفردة «الرخوة» إلى الدولة اللّبنانيّة التي جَمعت إلى رخاوتها، مظاهر الفساد والإفساد، وليس وصفاً ارتجاليّاً القول إنّ «النظام الذي تأسّس على رأسماليّة ريعيّة غير مُنتِجة، قد تفكّكت اللّحمة بين مكوِّناته»، هذه اللّحمة التي وفّرتها لحقباتٍ طويلة رأسماليّةُ الريع إيّاها؛ أمّا الأوضح والأهمّ من ذلك كلّه، فهو تسطير جملة أساسيّة مفادها: «بقاء النظام الحالي بات مستحيلاً».
الجهر باستحالة بقاء النِّظام اللّبناني الحالي، أي استحالة ديمومته على حاله، هو في حدِّ ذاته إطلاق صيغة «تقدّموا»، هذا يعني تحديد الوجهة صوب الأمام، ويعني في الوقت ذاته طرح أسئلة من أين؟ وإلى أين؟ ومتى؟ وكيف؟ أيّ كلّ الأسئلة التي تطرح مسألة الانتقال الذي لا يُعرَّف كانتقالٍ مكاني، بل هو انتقال زماني، وقد ينطبق عليه اعتماد مصطلح حذر، بحيث يكون الانتقال كيفيّاً مخفّفاً، أي صيغة إصلاحيّة تتيحها المادّة الواقعيّة، ما دامت الصيغة التغييريّة الواسعة بعيدة المنال.
في سياق الانتقال المُمكن والضروري، ولنقل المُلحّ الذي لا يمكن الاستمرار لبنانيّاً من دونه، يضع الكاتب في رأس أهداف دراسته «بلْورة رؤية تُبرِز دَور النّخب والمنظّمات والأحزاب... في نضالها لبناء لبنان الديمقراطي العلماني...». يعود هذا التأكيد من جانب الكاتب إلى قناعته المدعومة بتفاصيل ووقائع تاريخيّة، بأنّ التاريخ اللّبناني لم يكُن مجرّد تاريخ لنزاعات الطوائف ولتناحرها، وأنّ السياسات المُعتمَدة من قِبَلِ السلطات المتعاقبة لم تكُن كلّها سياسات متطابقة في جمودها وفي تخلّفها. أمّا الشاهد على ذلك، فهو المحاولة الشهابيّة التي حاولتْ فتركتْ أثراً ملموساً، لم تفلح تشكيلات السياسيّين المتعاقبة في اجتثاثها، على الرّغم من الهجمات الشرسة التي قادتها ضدّ إنجازاتها، على الأقلّ في بُعدها المؤسّساتي الذي استحدثته. هي مؤسّسات خاوية، أفرغتها التشكيلة السياسيّة الرّاهنة من محتواها، لكنّها ما زالت قائمة «إسميّاً»، وهي ما زالت صالحة لتكون إشارة سَيْر لمَن أراد الاهتداء إلى سلوك الإصلاح العامّ.
في أكثر من مرحلة تاريخيّة، يشير د. مسعود إلى مواكبة الثقافي التنويري للواقع السياسي. من هنا تشديده على ضرورة «المعركة الثقافيّة» التي لا بدّ من خَوض غمارها من أجل طرْحِ سؤالٍ حول مدى فَشَلِ النّخب اللّبنانيّة في لعبِ دَورها التنويري التاريخي، وفي تحديد أسباب هذا الفشل، ومن أجل تجاوزها راهناً ومستقبلاً، على عاتق النّخب الجديدة، أو المتجدِّدة، يقع عبء صوغ «مقولات جديدة، من شأنها تعرية المرويّات الطائفيّة» وإعادة الاعتبار إلى ما هو مقصيّ من سيرة «الحراك الشعبي» الذي لم يغبْ عن حقبات التاريخ، موضوع دراسة د. ضاهر. ولأنّ لكلّ مقاربة منهجيّة محدَّدة، يشير الكاتب إلى أنّ المنهجيّة التي اعتمدها في «تاريخ لبنان الاجتماعي المُعاصر (خارج القيد الطائفي)»، تقوم على ركائز عديدة، منها «واقع المُجتمع التعدّدي، سكانيّاً، والتنوّع الثقافي «الذي ينهل من مصادر متعدّدة، وإلى التنوّع والتعدّد، يضيف المؤلِّف ما شهده المجتمع المدني «من تبدّلاتٍ مُضيئة مؤخّراً»، أي في التاريخ الذي شهده شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر من العام 2019. هذه الإشارة التي لم تهمل حقيقة وجود طبقة وسطى واسعة الانتشار، وفسيحة الحضور، ولافتة التعداد الذي يقارب نسبة السبعين في المئة، رافقتها التفاتة سريعة إلى واقع «انتفاضة» تشرين المُشار إليها، من دون الوقوف طويلاً أمام تبيُّن مفاصل ديناميّتها وتجمّعها، وأمام الأساسي من شعاراتها ومن أساليب عملها، وأمام الأسباب الذاتيّة والموضوعيّة التي سمحت للنظام القائم بإفشالها.
المرور السريع الذي كان من نصيب حركة 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر العالقة بين مفردات تصنيفها، حظيت به مسألة المقاومة اللّبنانيّة التي جَعَلَها الكاتب «روحاً» تسكن جوانب اللّبنانيّين، وهو لم يُعدم في هذا المجال شواهد، سواء في ثورات الفلّاحين قديماً أم في مقاومة الاحتلال الصهيوني حديثاً، أم في ما بينهما من نضالاتٍ سياسيّة ونقابيّة، تصدّت لها قوّات الانتداب قبل الاستقلال، وتصدّى لها النِّظام الطبقي ذو الوجه الطائفي طيلة ما بعد الحقبات الاستقلاليّة الحافلة بأكثر من احتراب أهلي.
هذه المقاومة، بَدَت كأنّها «محشورة» في السياق، لسبب راهن، وربّما كان استحضارها لجعْلها عاملاً حاسماً في الميزان المحلّي، وعاملاً مرجّحاً في الموازين الخارجيّة. تصلح مسألة المقاومة هنا، لجعْلها مثالاً على مدى ترابط الداخلي والخارجي، الذي يشير إليه الكاتب، وهذا الأخير كان يسيراً لديه حشْد أمثلة من التاريخ اللّبناني يستطيع ردّها إلى زمن الإمارة، وإلى ما أعقب ذلك من حقباتٍ لم يغبْ عنها الخارج، الذي كانت له في كلّ حقبة ركائز داخليّة، في المُجتمع الذي كان مسرحاً لسياساته.
تقتضي الإشارة إلى أنّ البحث الواسع الذي تضمّنه «كتاب تاريخ لبنان الاجتماعي»، حمل مروحة قضايا لاحت بعض التبايُنات لدى استعراضها، منها ما يتعلّق بالنظام اللّبناني، تعريفاً وآليّات إعادة إنتاجه لذاته، ومنها ما يتعلّق بالمقاومة التي صارت مسألة إشكاليّة بين اللّبنانيّين، ومنها ما يتعلّق بالحركة الشعبيّة عموماً، وبالنّخبة اللّبنانيّة، وبمعنى استعصاء التغيير المنشود الذي لا يقيم في البنية الفوقيّة للنظام فقط، بل يقيم أيضاً وأساساً في «بنيته التحتيّة» الاجتماعيّة. هذه المسائل وغيرها، هي ممّا يحفِّز الكاتب على الوقوف أمامها، فَهماً ومحاولة تفكيك. على هذا الوجه، لا يُغلق كتاب د. مسعود ضاهر «الملفّ اللّبناني» بعد الجملة الأخيرة من صفحاته، بل يفتح الباب واسعاً أمام كتابة إضافيّة لصفحات وصفحات.
----------------------------------
* كاتب من لبنان
(بالتعاون مع مؤسسة الفكر العربي - نشرة «أفق»)
أخبار ذات صلة