بيروت - لبنان

اخر الأخبار

2 حزيران 2021 12:00ص مُحَمَّد بَرَكات عَميدُ الخَيْرِ العَرَبِيِّ - الحلقة الثانية

محمد بركات محمد بركات
حجم الخط
دَخَلْتُ قاعةَ الاحتفالِ بافتتاحِ «مجمَّع مؤسَّسات الرِّعايةِ الاجتماعيَّة في عرمون»، حيثُ استقبلني مُديرُ المجمَّعِ بحفاوة بالغة، ولم يلبث أن قدَّمني إلى «المدير العام لمؤسَّسات الرِّعاية الاجتماعِيَّة»، الأستاذ محمَّد بركات. كانت المرَّة الأولى التي ألتقي فيها هذا المالئ الدُّنيا بأعماله وشاغل النَّاس بحديثهم عن افتخارِهِم بمنجزاته. أقبلتُ عليه، وسرور كبيرٌ يملأ محيَّاي؛ وقابلني، بدورهِ، بابتسامةٍ مُرَحِّبَةٍ هاشَّةٍ باشَّةٍ، قائلاً، سَمِعْتُ عنكَ من قبلُ، ويُسعدني أن ألتقي بكَ في رحابِ مؤسَّستنا هذه. وأجبته، بأنَّ سعادة هذا اللقاء تعودُ لي، إذ لطالما أحببتُ أن ألتقي هذا الكبير من أبناء بلدي. ضحكنا، معاً، رَبَتَ على كتفي باشَّاً؛ وتوجَّه إلى الضَّيوفِ الآخِرين مُرَحِّباً، يتبادل مع بعضهم التَّحايا ومع بعضهم الآخر الكلام. وكان أن طلب مني مدير المجمَّع، أن أجلسَ في غرفة خُصِّصت، كما خُيِّلَ إليَّ، لاستراحةِ المتكلِّمين في الحفل؛ فشكرتُهُ على هذا، ودخلتُ الغرفةَ تلكَ، مسلِّماً على من فيها. لم يمض وقت، حتَّى همس المدير في أذني، سائلاً عن نصِّ الكلمةِ التي سألقيها في الاحتفال؛ وهنا كانت المفاجأة. أخبرت المدير، أنَّ ما من عادتي أن أكتب خطبي مسبقاً، بل أني أكتبها، إذا ما طُلِبَ مني ذلك، بعد أن ألقيها ارتجالاً. صمتَ المديرُ، صَمْتَ حائرٍ، وكأنَّه أُوقِعَ في يده، هزَّ رأسه بما يُشْبِه الاستسلام، وغادر الغرفة مسرعاً. لم يلبث أن دخلَ الأستاذ بركات الغرفة، ناثراً البهجة والسُّرور ببشاشته المعروفة، ثمَّ اقترب منّي، مستفهماً بابتسامةٍ رأيتُ فيها حيرةً تَجُولُ بين الاستغرابِ والعَتَب؛ ثم قال، أخبروني، يا دكتور، أنَّكَ ترتجل خُطَبَك، ولا تكتبها؟ وقبل أن أجيب ببنت شفة، تابعَ قائلاً، أنت تعرف حرصي على تنظيم احتفالات المؤسَّسة واهتمامي بدِقَّةِ كُلِّ ما يجري في مثل هذه الاحتفالات العامَّة؛ خاصَّة، ونحن في ظروف أمنيَّةٍ وسياسيَّةٍ شديدةِ الحساسيَّة. وكان جوابي المباشر، أنَّ ما سأقوله في خطبتي، لا يمكن إلاَّ وأن يكون متجانساً تمام التَّجانُس مع ما تبغيه من تنظيم ودقَّة، ولن يكون فيهِ ما يُثير أيَّ نفورٍ اجتماعيٍّ أو سياسيٍّ؛ وضحكتُ متابعاً، ولن يُحْدِثَ ما سأقولهُ أيَّ إقلاقٍ أمنيٍّ؛ وكان أن ضَحكنا سويَّاً، غير أنَّ ابتسامةَ الأستاذ بركات الحائرة، تلك، تحوَّلت مِن تجوالٍ لها بين الاستغراب والعتب، إلى تجوالٍ قَلِقٍ بين الحَذَر والاطمئنانِ.
توطَّدت العلاقةُ، تالياً بيني وبينَ الأستاذ بركات؛ وكانَ ازديادٌ متنامٍ عِندي لإعجابي بِهذا المارِدِ، الذي يُتْقِنُ مُواجهةَ التَّحديَّات بالمعرفةِ الكاملةِ لموضوعاتِها، فضلاً عن التَّصميم الواضِحِ للمرادِ منها، مع التَّفكيرِ العِلْمِيّ الموضُوعيِّ للتَّخطيط لتنفيذها؛ وطبعاً بالشَّراكةِ الجَماعِيَّةِ للعملِ في سبيلها. لذا، لم يكن بغريبٍ، على الإطلاق، أن تتحوَّل «دارُ الأيتامِ الإسلاميَّةِ»، في عهد إدارة الأستاذ محمَّد بركات لها، ورعايته لشؤونها كافَّةً، منذ منتصفِ ستِّيناتِ القرن العشرين، من كونها مجرَّدَ ملجأٍ يجهدُ القائمونَ عليهِ إلى اسْتَرْفَادِ المساعداتِ، تَعَطُّفاً من الآخرين، على أطفالٍ رماهم اليُتم عند أبوابِ المجهولِ؛ كما يستعطي، هؤلاء القَيِّمونَ، العَوْنَ، شفقةً، لأولادٍ شرَّدهم الفَقرُ في شوارعِ اليأسِ والبؤسِ، بأنْ يُسَيِّروهم في مواكِبِ الجنائزِ منكسرينَ، إظهاراً لعطف حقيقي أو مُدَّعى عليهم، مِنْ جِهةِ ذلكَ المُتَوَفَّى أو بعضِ ذويهِ؛ إلى مؤسَّسَةٍ تنهضُ على شراكةٍ العطاءِ الإيجابِيِّ بين «المُؤَازِرِ» من جهةٍ، ومن يسعى إلى مؤازَرَنِهِ، مِن جهةٍ أخرى؛ إذ الأوَّل يقدِّم الدَّعم، فيما الثاني يقدِّم الخير الاجتماعي إلى بيئتهِ وناسها.
لقد تمكَّن الأستاذ بركات، بِوَعْيِهِ المُجتمعيِّ النفَّاذ، مِن تحويلِ «المَيْتَمِ»، بكلِّ ما في دلالاتِهِ التَّقليديَّةِ المُتوارَثَةِ، جيلاً إثر جيلٍ، مِن بُؤسٍ وقَهرِ وبَلاء مُرٍّ، إلى أنْ يكونَ مُؤسَّسةً تقودُ المجتمعَ في مسالكِ الخيرِ وساحاتِ البَذْلِ ومشارِبِ العَطاء؛ مثلها في هذا، مثلَ أيِّ مؤسَّسَةٍ مُنْتِجَةٍ اجتماعِيَّةٍ أخرى. وأَفْلَحَ محمَّد بركات، كذلكَ، بِوَعْيِهِ وحصافَتِهِ وحِنْكَتِهِ، مع جهدِهِ التَّخطيطي المُنْتَظِمِ والدَّؤوب، وبفخامَةِ مَوْهِبَتِهِ في مجالاتِ العلاقاتِ العامَّةِ، فضلاً عن احتِشادِ خِبْرَتِهِ المُتَمَاسِكةِ والمُتَمَكِّنة في كثير من أبعادِها، أن ينقُلَ «اليتيمَ»، بعد أن كانَ هذا اليتيمُ عالةً على المجتمع، تٌسْتَجدى في سبيلهِ الصَّدَقَةُ وتُسْتَعْطي من أجلِ قوتِهِ الحَسَنَةُ، إلى أن يكون مواطناً إيجابِيَّاً مسؤولاً عن مناحٍ خاصَّة به، في دنيا العطاء الاجتماعي والرَّفاه المجتمعي؛ نعم، إنَّ محمَّد بركات جعل من «اليتيم»، شريكاً أساساً في مجالات العطاء الاجتماعي؛ ولعلَّ في هذا النَّجاح الاجتماعي النَّوعي، في تغيير مفهوم العمل الاجتماعي من كونه شفقةً تُبْذَلُ من ميسورٍ إلى مُعْوِزٍ، إلى شراكة مجتمعيَّةٍ تكاملِيَّةٍ، تنهض على تكاتفٍ بين مانِحٍ وممنوحٍ، يتحمَّل كل واحد منهما مسؤوليَّتهُ في هذه الشَّراكة؛ إذ أحدهما يُؤَمِّنُ الدَّعم، والأخر يقدِّمُ الجهدَ الاجتماعيِّ البنَّاء، عبر قِيَمِ التَّعاونِ البنَّاء في سبيل مجتمع سليم البنية معطاء الشراكة؛ ولذا، فقد كان ظمن الطَّبيعي، بل من تحصيل الحاصل أن تتوافق الهيئات الاجتماعيَّة العربيَّة كافَّة، في مؤتمر مشترك لها، على أن تمنح الأستاذ محمَّد بركات لقب «عميد الخير العربي»؛ وكيف لا، وهو من غير مفاهيم الشفقة والصدقةِ من كونها إشفاقاً وتفضُّلاً، إلى حقيقة الإفادة منها في تكوين شراكات اجتماعية مجتمعيَّة مسؤولة ومنتجة؟!!
من المشهور، أنَّ الأستاذ محمَّد بركات، إنسانٌ مضيافٌ، مٌحِبُّ للقاءات الجماعِيَّةِ؛ كما أنَّه سيِّدٌ من ساداتِ تنشيط الجمعات الثَّقافية والفكريَّة وجلسات العصف الفِكريِّ. وكم من مرَّةٍ تشرَّفتُ بدعوتِهِ لي إلى دارَتِهِ العامِرَةِ، حيث كنتُ أحظى، في كلِّ مرَّةٍ، بلقاءِ نُخَبٍ كَرِيمَةٍ مِن خِيرةِ المُثقَّفين والمُفَكِّرين وقادةِ الرَّأي والعَمَلِ في المجتمعِ؛ وكم كانت غنِيَّةٌ تلكَ الحواراتُ والنِّقاشاتُ التي كان يُثيرها الأستاذ بركات بَين ضيوفِهِ، وكم كانت الأفكارُ غنيَّةً ومعطاءً وهي تجتمعُ، فيما بينها، برعايةِ الأستاذ بركات وحِنْكَتِهِ في إدارةِ الحِوارِ واستِخلاصِ صَفْوَةِ ما فيهِ. ومع سُمُوِّ الموضُوعاتِ، التي تُثار في دارةِ الأستاذ بركات، وكثير منها كان يدورُ حَوْلَ رؤىً لتطويرِ «مؤسسات الرِّعاية الاجتماعيةِ وحُسنِ تواصُلِها معَ المجتمعِ؛ فإنَّ مائدةَ الطَّعامِ، التي كُنَّا نُدعى إليها في تلك الدَّارِ، كانت تَحْمِلُ إليَّ كثيراً جدَّاً من أصنافِ طعامٍ طريفٍ ولذيذٍ، منهُ ما يُعْتَبَرُ تُراثاً بيروتيَّاً عريقاً، ومنه ما هو وليدُ ذائقَةٍ مترفَةِ الأناقَةِ في حداثِيَّةِ مِزاجِها؛ بيدَ أنَّ المفاجأةَ الأكبر، كانت أنَّ هذه الأصناف، بكلِّ تنوُّعاتها، كانت مِن إِعدادِ الأستاذِ بركات شخصِيَّاً، وبتوجيهِهِ وإشرافِهِ المُباشِرَيْنِ؛ إذ «الأستاذُ» طبَّاخٌ ذوَّاقةٌ مُبْدِعٌ في هذا المجال.
أن يكونَ الأستاذ محمَّد بركات في مجلسٍ، فلا جِدالَ أنَّه سيكون المنشِّط الأساس في ما يَدور، في هذا المجلس من أحاديث، وما قد يتوصل إليه المجتمعونَ من آراء وقرارات. ولذا، فما مِن واحدةٍ أساسٍ أو ذاتِ أهميَّةٍ مِن قضايا المُجتمعِ العامَّةِ أو تلكَ الوطنِيَّةِ المُرتبِطَةِ بالصَّالحِ العام، إلاَّ وللأستاذ بركات حضورٌ فاعلٌ في كثيرٍ مِن شُؤونِها وشُجُونِها. ولَئن كانَ، ووفاقاً للقولِ المشهورِ، «لا يُفتى ومالِكٌ في المَدِينَةِ»؛ فإنَّ كثيراً مِن قضايا الرَّأي العامِّ الكُبرى، في بيروتَ، كما في لبنان بِرُمَّتِه، ما كانَكثيرٌ مِنْ أصحابُ القرارِ الأساسِ فيها يُمْضونَ الرَّأي الأخيرِ في جُلِّ قراراتِهِم، إلاَّ بعدَ مشاورةٍ يُجرونَها مع الأستاذ بركات، أو بعدَ مشاركةٍ لهم في جلسةِ عَصْفٍ فِكْرِيٍّ معه، كثيراً ما كانت تُعْقَدُ في دارِهِ العامِرَةِ. وحصلَ مرَّةً أنْ عُرِضَ منصبٌ وزارِيٌّ على الأستاذ بركات؛ بَيْد أنَّه قالَ لِرئيسِ الحُكومةِ، الذي عرضَ عليهِ تولِّي مهامَ المنصبِ، إنِّي أهتمُّ للشَّأنِ المُجتمعي، بكلِّ ما في كياني مِن وَعْيٍ وعُمْقٍ ومقدرةٍ على الالتزام؛ غيرَ أنَّ السِّياسةَ، تظَلُّ عندي أمْراً بعيداً عن مَنْهَجِ تفكيري وعَمَلي.
جرى انتخابي، في شهر كانون الأوَّل مِنْ سنةِ 2018، مِنْ قِبَلِ أخواتي واخواني الكِرام في «المركز الثَّقافي الإسلامي»، مشكورين، رَئيساً للمَرْكَزِ، وانتخبوا معي كَوْكَبَةً طيِّبة كَريمَةً لِعُضوِيَّةِ «الهيئةِ الإداريَّةِ» فيه؛ وكانَ الأستاذ محمَّد بركات مِنْ بين المُنْتَخَبينَ لعُضويَّةِ الهيئةِ. كنتُ، وقت جرت هذه الانتخاباتُ جميعها، غائباً عن الاجتماعِ، بلْ خارجَ لبنان، أخضع لعمليَّة طُبِيَّةٍ طارِئةٍ وشديدة الدِّقَّة في القَلْبِ. وكان، أنْ دَعَوْتُ، بعدَ عودتي مِن الخارجِ، وكما يَنُصُّ النِّظامُ الدَّاخلي للمركز، أعضاءَ «الهيئةِ الإدارِيَّةِ» المُنْتَخَبَةِ، إلى اجتماعٍ لتوزٌّع المهام، المَنْصوص عنها في النِّظام، في ما بينهم بالانتخابِ. وكانَ أنْ مَنَحَني، الأستاذ محمَّد بركات، عميد الخير العربي، في هذا الاجتماعِ، واحداً من أكبر الأوسمةِ التي أُزَيِّنُ بها مَسيرتي الاجتِماعِيَّةِ، إذْ قال، إنِّي، وقد تَقَاعَدْتُ مِن جميعِ أعمالي الوَظيفيَّةِ، بعدَ العمر الطويلِ الذي أمْضَيْتُهُ في «مؤسَّساتِ الرِّعايةِ الاجتماعيَّةِ»، أُحِبُّ أنْ أُتَوِّجَ هذهِ المرحلةَ الحالِيَّةَ مِن مسيرَتي، بأنْ أكونَ نائِباً لِرئيسِ المركزِ الثَّقافِيِّ الإسلامي، الدكتور وجيه فانوس. 
«محمَّد بركات»، أيُّها الكبير ُالمِعطاءُ، يا واحداً مِنْ بَني قَوْمِي يَفْقَهُ فاعليَّةَ التَّفكيرِ الإيجابيِّ في العَيْشِ، ويُحْسِنُ البِناءَ القائمَ على أُسُسِ العَقلِ ومعارِجِ المَنْطِقِ السَّليمِ وحصَافَةِ التَّصميمِ الألمَعِي، ويَجْهَدُ في أنْ يحقِّق أفضلَ النَّتائج في كلِّ أمر يتولاَّه؛ بعيداً عَن التَّبجُّحِ وبريئاً مِن التزلُّفِ والتزلُّم، خالِصاً مِن شوائِبِ الدّونيةِ أو الخَساسَةِ، وبعيداً عن نوازعِ التَّكَبُّرِ وتَهويماتِ التَّبَجُّحِ؛ كم اليومَ، وفي خِضَمِ ما نعانيهِ بحاجة إليكَ وإلى مَنْ هُم مِثلكَ، وبهديِّ منهجكَ العبقريِّ في الرَّأي والرُّؤيا.

----------------
* رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي