يتابع الرئيس صائب سلام في مذكراته كتابة أحداث عام 1982 الخطيرة قبل وبعد الاجتياج الإسرائيلي للبنان، وإصرار بشير الجميل على الترشح لرئاسة الجمهورية، وهو يعتبر أمراً خطيراً إجراء انتخابات رئاسية في ظل احتلال الجيش الإسرائيلي وانتشاره في بيروت. كما أشار إلى جهود الدول العربية والمجتمع الدولي بالقضية اللبنانية.
ومما قاله: «جاءني صلاح سلام للمرة الثانية، وعلى ما يبدو أنه وثيق الصلة بالمفتي وسليم الحص، إذ سألني عند مغادرته: هل تمانع في زيارة الحص لك. قلت: طبعاً إنني أرحب ولا أمانع، ولكن تصرفات الحص الأخيرة لا أقبلها له فهو ينزلق إلى السياسة الاستهلاكية...».
وأضاف الرئيس صائب سلام بأن الوزيرين ميشال إده ومروان حمادة زارا الرئيس سلام، وأن الوزير ميشال اده أخبره بأنه اجتمع ببشير الجميل الذي أكد له أنه لن يتراجع عن ترشحه لرئاسة الجمهورية مهما كانت النتائج في الوقت الذي كان القصف الإسرائيلي يطال المدنيين والمقاومة الفلسطينية في بيروت لا سيما في 22 حزيران عام 1982. وبالرغم من جهود الرئيس صائب سلام مع المبعوث الأميركي فيليب حبيب ومع الرئيسين فرنجية والوزان ومع سماحة المفتي الشيخ حسن خالد ومع الكثير من السياسيين مسلمين ومسيحيين.
ومما ذكره الرئيس صائب سلام: «أتذكّر أنّ ما ذاقته بيروت هو أشدّ ما يكون فظاعة تحت قنابل هذا «الهولاكو» (أي شارون) الجديد الذي يريد هدمها. عدوان وحشي أصاب بيروت كما أصاب لبنان كلّه من جنوبه إلى عاصمته، تهديماً وخراباً وهدماً وفتكاً.
سكّان بيروت نزحوا بالألوف المؤلفة، باتّجاه الشمال والشرق، وبقي فيها أيضاً ألوف، وهم كلّهم تحت رحمة قنابل شارون.
ابتدأ شهر رمضان ونحن في هذه الحال، وأنا في كلّ وقت أستصرخ العالم، وكالات الأنباء والصحف… أسعى كلّ ساعة مع الوزراء، مع السفراء، مع «التجمّع الإسلامي».
أصرخ أنّ الإسرائيليين يريدون القضاء على «المقاومة الفلسطينية» نهائياً، وها هم قد احتلّوا جوانب بيروت من جنوبها إلى شرقها إلى شمالها عند الكتائب.
أصرخ مخاطباً السفير حبيب، فيوقف القتال، ثمّ نراه يستمرّ، ويرسل شارون منشورات فيها التهديد والوعيد وضرورة خروج أهل المدينة منها، تلقي هذه المنشورات طائرات كلّ يوم، وكان لها فعلها ودويّها العظيم.
وقد اضطررت للاتّصال برئيس الجمهورية مرّتين، وكلمته بلهجة قاسية قائلاً: «أنت قاعد في بعبدا، ولكن عاصمتك تحت رحمة الإسرائيليين في كلّ ساعة، وقد يدمّرونها، فاستنجد برؤساء العالم ومن خلالهم بشعوب العالم كله».
وفي موضوع زيارة بشير الجميل للسعودية، أشار الرئيس سلام: «حين أخبرني (هاني الحسن) أن (بشير الجميل) سيزور السعودية، لم أعلق، وكنت عائداً لتوّي من عند رئيس الجمهورية المريض، حيث كان في زيارته أيضاً الرئيس «الوزان» والوزير (بطرس)».
اجتمع المراسلون الصحافيون عندي طالبين تعليقاً على زيارة (بشير) فاكتفيت بكلمات قليلة: «إنني سمعت عن اللجنة المنبثقة عن مؤتمر وزراء الخارجية العرب المجتمعة في الطائف والتي استدعت الشيخ بشير الجميّل».
في هذا الوقت نقل التلفزيون عن الكتائب أنه قد وصل إلى الشيخ (بشير الجميل) كتاب بتوقيع (علي الشاعر)، يدعونه باسم وزير الخارجية سمو الأمير (سعود الفيصل)، وأن (سلام) علّق بقوله: «ليس من شأني أن أقول إن بشير الجميل يمثل كل المسيحيين أو لا يمثّلهم، كما لا أدري إن كان من حق الوزير عبد الحليم خدّام أن يمثّل كل المسلمين».
أما في ما يختص بالوضع الأمني في بيروت، فقد أشار صائب سلام إلى أنه: «ابتداءً من أول آب/ أغسطس 1982، فُتحت أبواب جهنّم على بيروت، وشاهدنا وعشنا أضعاف ما شاهدناه في السابق، فمن الصباح إلى المساء كان القصف الإسرائيلي جواً وبحراً وبرّاً متواصلاً بشكل غريب. في الواقع يمكن أن أسمّيه جهنّم وأبوابها مفتوحة. كنا في بيت أختي فاطمة، فنزلنا إلى الطابق التحتاني؛ حيث اعتقدنا أنّ العقد يحمينا أكثر من البقاء في الطابق الأول، ولم يكن هناك إنسان يتحرّك على الطريق خلال تلك الساعات، كنا نسمع القنابل تتساقط حولنا وتأتينا بعض شظاياها، إلى أن وقعت اثنتان منها عندنا في البيت الملاصق لبيتي، وهو المكتب الذي أضع فيه كلّ أوراقي وملفّاتي، وواحدة انفجرت فخرقت السقف الذي تحت أرض الغرفة على مسافة 60 سنتيمتراً من العقد، إذن، لو أتى شيء من فوقنا لا سمح الله لهُدم البيت على رؤوسنا».
وأوضح الرئيس صائب سلام عن الجهود المبذولة مع المبعوث الأميركي فيليب حبيب لوقف العدوان الإسرائيلي على بيروت ومفاوضات انسحاب المقاومة الفلسطينية من لبنان: «استمر الحوار بيني وبين (حبيب)، وبيني وبين المقاومة، لتذليل العقد وتأمين الانسحاب، وقلت مرة لـ (حبيب): «إن الفلسطينيين لو قبلوا بأن يتركوا بيروت قبل دخول القوات الدولية، وبالتعاون مع الجيش اللبناني، فنحن اللبنانيين لن نقبل بذلك، وهي أمور يمكن تسويتها، وأعتقد أن المفاوضات صارت على نهايتها، وهذه هي النقطة الباقية التي يجب أن نحلها».
وأضاف: «وفي اليوم نفسه، كلمني (حبيب) وأخبرني أنه اتصل بواشنطن ....... ما ردده له الرئيس (الوزان) من أن مطلب دخول الجيوش الأجنبية عند رحيل المقاومة ليس مطلباً فلسطينياً، بل هو مطلب إسلامي بيروتي.
وليلاً، أذكر أنه أتاني «أبو الوليد» يحمل ورقة معنونة «يو أس بوزيشن» أي الموقف الأميركي، وهي تتعلق بملاحظات الفلسطينيين التي سبق أن أرسلوها وهذا مما يسرّ.
أما الموقف المصري الأخير، فإنه لما كلمني (صلاح زكي) القائم بالأعمال المصري، حمّلته رسالة إلى الرئيس «حسني مبارك»، وبينت له الاستياء العام من موقفه، لأنه أعلن أنه لن يستقبل أي مقاتل فلسطيني إلا بعد أن يأخذ مسبقاً ثمناً لذلك، اي موافقة أميركا على الاعتراف ولو بخطوة بحقوقهم، كما كان قد أعلن أيضاً أن قضية بيروت لا تهمهم أبداً، مقابل أن يأخذوا شيئاً من الفلسطينيين، وهو موقف، برأيي، غير مقبول، خصوصاً أنني الوحيد، وهم يعرفون ذلك جيداً، الذي يشيد بمجهودهم منذ أشهر.
وحين صدر قرار مجلس الأمن بإرسال مراقبين دوليين، صرت ألحّ على (فؤاد بطرس)، ثم على الرئيس (الوزان)، بضرورة ملاحقة الموضوع، والاتصال بـ «غسان تويني» في الأمم المتحدة، وقد قيل لي إنها قضية إعلام، فقلت: «والإعلام يؤثر في الوضع العالمي، ونحن محتاجون إليه»، وكان (الوزان) قد أخبرني نتيجة اجتماعه مع اللواء (سامي الخطيب) من دمشق، الذي أبلغه أن جواب الشام كان إيجابياً، وكنت هكذا فهمت من السفير الأميركي (ديلون) الذي أخبرني أن (حبيب) صار في إسرائيل، فقلت له: «إننا وصلنا إلى نهاية المطاف، وإن الفلسطينيين تنازلوا إلى أبعد الحدود، ونحن تنازلنا معهم أيضاً».
وفعلاً، حين عاد «حبيب» اتصل بي وأخبرني أن الأمور قد مهدت، وهناك أشياء طفيفة لا تزال عالقة، وهو سيخبر (الوزان) بها ليقنع الفلسطينيين بحلها».
وأضاف الرئيس سلام: «خلال حديثي مع (حبيب) عن وقف إطلاق النار، أو حل عقد الانسحاب الفلسطيني، بحثنا قضية رئاسة الجمهورية، فقلت له إنه قد أصبح من المستحيل قبول المسلمين بـ «بشير الجميل» فحاورني، وأنا اقول: «مستحيل»، قال: «هذا ربما هو موقفك الشخصي»، قلت: «لا، هو موقف المسلمين كلهم، صحيح أنا لم أبدِ إلى الآن رأياً علنياً ولكنني خابرت كميل شمعون وبيار الجميل وشارل مالك، وافهمتهم جميعاً أن الرأي الإسلامي الموحد عند السنة والشيعة والدروز أنه لا يمكن القبول ببشير الجميل، وهذا نهائي».
(وليد جنبلاط) كان باله مشغولاً جداً من موضوع رئاسة الجمهورية، فطمأنته بأن موقفنا سيكون حازماً، وأننا كلنا واحد، وأخبرته أنني اجتمعت بالشيخ (محمد مهدي شمس الدين) وكان معه الشيخ (عبد الأمير قبلان)، وعززت موقفهما، وهما صامدان مستمران في الوقوف ضد قضية (بشير الجميل)، وأن هذا الموقف قلته لـ (حبيب) في آخر اتصال بيننا.
وكان (جنبلاط) ينتقل من مكان إلى آخر في ملاجئ بيروت، وهو قلق من القضية، فطمأنته مراراً، وحين أخذ يشرح لي وضع النواب، هذا وذاك، وأن (بشير الأعور) أرسل يقول له إنه متضامن معنا، لكنه يخشى من الآخرين، فقلت له: «لا تخشَ أحداً، نحن نأخذ الموضوع بالحكمة حتى لا نعطي مجالاً للمسيحيين للتشدد مع بشير».
وكان (جنبلاط) يقول لي إنه فهم من مندوب المخابرات السورية الرائد (نور الدين) أن سوريا لن تقبل بـ (بشير) ابداً، وأنّ (الرائد) يحاول أن ينقل هذا الخبر لـ (كامل الأسعد) لأننا نعرف أن (كامل الأسعد) يتأثر بموقف سوريا، مثل (وليد).
وأذكر أننا كنا مع (وليد) و(تقي الدين)، نناقش المفاوضات مع الفلسطينيين، والصحافيون ينتظرون مني تعليقاً، وكان حاضراً (تمام) و(نواف) و(نبيل)، وإذا بـ (كامل الأسعد) يعلن أنه دعا المجلس إلى انتخاب رئيس الجمهورية يوم الخميس المقبل، فكان على لسان كل منا أنه: «الناس بالناس والقطة بالنفاس»، لقد وصلني الخبر وأنا وسط المؤتمر الصحافي، فسألني أحدهم عن رأيي فأجبت بأنه ليس من رجل عاقل يفكر في دعوة المجلس في هذا الظرف، ولكن (كامل) يعتقد نفسه (سكيبر) أي ربان السفينة، وقد أخذ عليّ (تمام) استعمالي هذه الكلمة، وأنا قصدت ذلك لأن (كامل الأسعد) ما كان من حقه أنه يقوم بذلك بدون أن يشاورني. على كُلٍّ لم أعلق سريعاً على موعد تعيين الجلسة.
ثم انضم إلينا (محمد شقير) ليخبرني ما جرى في اجتماعه بـ (بشير الجميل) بحضور (تقي الدين الصلح) وأنه كان يلحّ على ضرورة أن يقابلنا ويسأل لماذا نرفض ذلك، فقال له شقير: «كيف يقابلونك وأنك مرشّح؟».
وأوضح الرئيس صائب سلام تحركات بعض النواب ومواقفهم في جلسة 23 آب 1982 وقال: «كان اليوم العظيم للانتخاب. منذ الصباح بدأ التلفزيون يغطي التحركات النيابية، ومن يصل إلى المجلس من النواب اسماً اسماً، وكنا نتوقع كل من حضر إلى المجلس، ولكن الفاجعة الكبرى رأيناها على الشاشة فجأة... (سليمان العلي) يدخل مع (طلال المرعبي)، فأدركنا أننا قد خسرنا، وبعد ذلك دخل (إميل روحانا صقر) أيضاً، وهذا يعني أننا لن نتمكن من حجب الواحد والثلاثين صوتاً. وهكذا حصلت الانتخابات بعد النصاب المطلوب، حسب قول رئيس المجلس، وكان اعتقادنا أن المطلوب هو 66 نائباً. على كلّ، أجريت الانتخابات فأخذ في الدورة الأولى 56 صوتاً مع ثلاث أوراق بيضاء وورقة باسم (ريمون إده)، ثم أعيد الانتخاب حسب الأصول فأخذ (بشير) 57 صوتاً و5 أوراق بيضاء وأصبح رئيساً للجمهورية، وعلى هذا كان علينا أن نتخذ موقفاً مما حصل».
«يتبع»