بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 نيسان 2021 12:00ص نَجيب البْعَيْني (1936-2018) شاهدٌ أمين على مناحٍ أساسٍ من ثقافةٍ عصره ـــ 1 ـــ

حجم الخط
إذ يَحْكي المرءُ عن الأستاذ «نجيب البْعَيْنيِّ»، فإنَّ الكلامَ لا يكون، فضلاً عن «غزارةُ المعرفة» و«سعَةِ الأُفقِ الثَّقافيِّ» و«وعي المسؤوليَّة التاريخيَّة»، إلاَّ في «دقَّة البَيانِ التَّعبيريِّ» و«جماليَّةِ الوَصف الأَدبيِّ». فـ «البْعَيْنيُّ»، أَحَدُ أعلامِ الثَّقافة المعاصرةِ في لبنان، بما ظلَّ يرفد به عطاءات هذه الثَّقافة مِن كتاباتٍ ومؤلَّفاتٍ؛ وما برح يُذكَرُ من بينِ أبرز أعمالِهِ، معاجِمٌ متنوِّعةٌ في سِيَرِ أعلامٍ الفِكْرِ والأدبِ وقادة الرَّأي، إلى جانبِ مقالاتٍ في قضايا الثَّقافةِ والأدبِ والعصر، مع نتاجٍ في الرِّواية والقصَّة. و«نجيب البْعَيْني»، كذلك، مِن أبرز المؤرِّخين لكثيرٍ مِن مساراتِ الثَّقافة في لبنان وناسها.

بدأت رحلةُ «نجيب البْعَيْني» مع الكتابة، مُنذ أدركَ، في سنوات طفولته المبكرة، أنَّ ثمَّة كتابة؛ وظلَّت هذه الرَّحلة ناشطةً في وجدانه، صاخبةً في حنايا كلماته، متفجِّرةً بحبر قلمه، حتَّى نهاية عمره؛ فكأنَّ «نجيب البْعَيْني» ما كانَ في عَيْشِهِ على هذه الأرض، إلاَّ شمعةً منذورةً لتُضيءَ آفاقَ الكتابةِ وما فيها؛ وكأنَّ الكتابةَ، في وجودِهِ، لم تَكُنْ لِتَأنَسَ بمعرفةٍ أو لِتزهو بِأدبٍ، إلاَّ بِشَعْشَعانِيَّاتٍ مِثْلَ شعشعانيَّاتِ حضورِها عبر فكرِهِ ومدادِ يَراعه.

وإذا ما كان على «نجيب»، يوم كان في يَناعَةِ طفولته، أن يقرأ لوالدِهِ ما كانَ يُكْتَبُ في الصُّحفِ مِنْ أخبارٍ الدُّنيا وتعليقاتٍ على أحوالِها؛ فإنَّه، أُغْرمَ بالكتابةِ، وتوَلَّهَ بشؤونها، في يَفاعَةِ صباه، حتَّى التزم بها مفتاحَ حياةٍ وطبيعةَ عيشٍ، منذ أيام شبابه وإلى حين قُدِّرَ لهُ أن يغيب عن أَدِيمِ هذه الفانية. ولقد ظلَّ «نجيب»، بشهادة الحِبرِ والورقِ وعيونِ القارئين وآذانِ السَّامعين، حتَّى آخر رمقٍ مِن حياتهِ، راهِبَ هذا الالتزامِ؛ يغوصُ في أعماقِ تكاوينِهِ المدهِشَةِ ويَسْرَحُ في آفاقِ عرفانِهِ السَّاميةِ؛ مُتَوَحِّداً فيهِ، ومشتعلاً بعطاءاتِهِ، ومُشيراً بها إليهِ. وكأنَّ «نجيباً» صارَ والكِتابةِ صُنوان؛ واحدهما لا يُعْرَفُ إلاَّ بصاحِبِهِ؛ وصاحبُهُ يُغْني ذاتَهُ واخرين منهُ؛ فيكونُ مِن هذينِ حقيقةَ حضورِ كلٍّ منهما في فاعليَّة الحياة.

لعلَّ نجيب البعيني، يمثِّلُ في رحابِ الثقافةِ المعاصرةِ في لبنان، هذا النَّهم الباحثُ عن المعرفة، لا لمجرَّد قبسٍ لها من مشاعِل العلماء وعطايا الحُكَماءِ، ولا يخزُنَ ما قد تحتشدُهُ مداركُهُ الواسعةُ من شذاها، في ثنايا دفاتره الخاصَّة أو في نسائم أحاديثه في المجالس الأدبيَّة والمنتديات الثقافيَّة؛ بقدر ما كان قطَّاف زهور الأدب وحضور أشخاصِ الثقافةِ من كل مطرح كان فيهِ أو كلِّ كتاب جابت في حناياه نظراته أو كلّش حديث سمعه فانتشى بأريج السَّماع. ومن هنا، فنجيب البعيني، كان على مدار ما عاشه من سني عمره، إنسان ثقافةٍ وتثقيفٍ بامتياز. صحيحٌ أنَّه كتب في مجلات القَصِّ، وصحيح كذلك أنَه أجاد في ميادين المقال؛ لكن الأكيد كذلك، أنَّه أتقن حفظ ما يمكن أن يكون النَّواةَ المِعطاءَ في مجالات السَّمحات الثَّقافيَّةِ المؤسِّسَةِ لدنيا هذا العصر العربيِّ الحديث. ومن هنا، يمكن النَّظر في تجربة نجيب البعيني، هذه، على أنها من بين الرَّكائز الواعدةِ لبناء تأريخٍ للعطاءات الثقافيَّة في عصره.

اهتمَّ، نجيب البعيني، بكثيرين من أعلام زمانه، فكتب عنهم معرِّفاً، وكتب في بعضهم شارحاً ودارساً ومحلِّلاً؛ وكان قلم «البعيني» في كل هذا، رشيقاً، غنيَّاً بقطافه، دسماً في مادته، بيد أنَّه كان في كلِّ هذا، رشيقاً في انسكابه الرقراق على صحائف الورق، وعذباً في انسيابه إلى الأذان، وصفِيَّاً عزيزاً في مخزونات الذَّاكرة.

كتابات نجيب البعيني، التي حفظ بها ذِكر كثيرين من ناس عصره وبيئته، والتي حكى فيها الأكثر، عن مناحي ثقافة ما عاشه وعاينه من فكر وفن؛ لا يمكن أن تكون إلاَّ من باب تأسيس فنٍّ أدبيٍّ، هو أدب التَّدوبن الثقافي؛ وهو أدب طالما أبحر نجيب البعيني رائداً يمخر عُبابه، وصيَّاداً لا يرضى من عطاءات هذه اللُّجَجِ، إلاَّ بالجواهر الزَّاهية والدُّرَرِ الكريمةِ النّادرة. ولِدَ «نجيب البْعَيْني» في قرية «مزرعة الشُّوف» سنة 1936، وتلقَّى علومه الابتدائيَّةِ في مدرستها، وتابع تحصيله المعرفيِّ، تالياً، في رحاب «الكلية الدَّاوودِيَّة»، في بلدة «عْبَيه»، سنة 1950؛ وانتقل، سنة 1960، للدِّراسة في «الكليَّة الوطنيَّة» في بيروت، حيث ختم تعليمه المدرسي، سنة1961، بحصوله على «شهادة البكالوريا اللبنانيَّة - القسم الثَّاني»؛ وكان له أن يحصَّل دراسته الجامعيَّة، لاحقاً، في «جامعة بيروت العربيَّة»، بدءاً من سنة 1964.

(وإلى اللِّقاء مع الحلقة الثَّانية، والأخيرة، من «نجيب البعيني» الشاهِدٌ على ثقافةٍ عصرهِ)

----------------

* رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي