بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 تشرين الثاني 2022 12:00ص هجرة الكهول

لوحة لـ نزار صابور لوحة لـ نزار صابور
حجم الخط
أنت لا تعرف اليوم معنى المدينة، إلا حين تغادر لبنان، إلى المقلب الآخر من العالم، حيث الهدوء والإستقرار، وحيث الدولة، وحيث البلدية، وحيث سائر السلطات الهرمية، بل حيث المدارس والجامعات والمستشفيات، وسائر قطاع الخدمات: من الهاتف والإنترنت، إلى الماء والكهرباء، وقطاع المواصلات، والطرق وما يتصل بها من البنى التحتية، والتي لا تصلح مدينة، بل ولا قرية، بدونها.
حين تقرر الكهولة، أن تغرب عن لبنان، فهي لا تفعل ذلك حتما، لغير هذه الأسباب، وخصوصا، أن الرجل الكهل لا يطلب عملا، ولا يريد أن يعيل عائلة، ولا يرغب في المغامرة، كما الأجداد الأصلاء، أو كما الأبناء والأخوال والأعمام، من المهاجرين والمغتربين الشباب، الذين ركبوا البحر، أو إستقلوا طائرة، أو أقلهم قطار، إلى مدن العالم، بحثا عما يريدون البحث عنه، من ندى الجبين المجيد الشريف، الذي كان قد إستعظم في الوطن، الذلة والهوان.
لا أريد التحدث عن هجرة الناس من أوطانهم، إلى بلاد المهاجر، بحثا عن عمل، أو عن جاه، فهذا له أسبابه التي لا أريد أن أخوض فيها الآن. لا أريد حتى مناقشة، أسباب هجرة الأوطان ودوافعها، عند جيل الشباب وهي غير قليلة، بل كثيرة للغاية. وإنما أريد أن أعرض لهجرة الكهول، الذين توقف بهم قطار الزمن، قطار العمل، بعد كدّ وجدّ وجهاد وإجتهاد. فلماذا يرغب هؤلاء الشيوخ والكهول، من جيل المسنين والمتقاعدين، أن يهجروا الوطن؟ أن يصمموا على مغادرته بعزيمة أقوى من عزيمة الشباب؟ أن يركبوا البحر وأن يشقوا الجوزاء، وأن يسيروا في الأرض، سرى الناس الذين، سدّت في وجوههم السبل الأخرى: سبل الحياة المدنية الهادئة، وسبل العيش الكريم، بلا خوف من المجاهل، ولا من المجهول، ولا من المجاهيل.
كانت القرى، كانت المدن، كان لبنان كله، من أقصاه إلى أقصاه، يأنس بالكهول من أهله، الذين ودّعوا أبناءهم، إلى ديار الإغتراب، للعمل هناك. وكان يفتحون بيوتهم، يحرسونها، يحرثون الجلول، ويسهرون على حكاياتهم، في الليالي الطويلة، بل في ليالي البرد والزمهرير، فلا يتأففون، ولا يتذمرون، ويظلون على شوق لأبنائهم، يحدثونهم عن بيت الأهل، عن الأجداد الذين حرثوا الأرض وصانوها، عن تاريخ لبنان، الذي كان يصارع العواصف، ويظل على صموده في وجهها، حتى الرمق الأخير.
كان كهول لبنان، يشجعون أبناءهم دوما على العودة إلى الديار، لإعمارها. كان يصورون لهم لبنان بستانا نضرا، وسوقا جميلة، وقرية باسمة، ومدينة ساهرة ضاحكة. كان الكهول يشجعون أبناءهم على العودة إلى حضن الوطن، فيرققون نفوسهم بالرسائل الرقيقة، ويشوّقونهم لرؤية الدار والمنزل والحقل والجل والبستان، والنبع ودربها، والمرج والخيل والماشية، ومنجيرة الراعي وقفطانه تحت ثلج الشتاء، تحت العاصفة، فترقّ قلوب أبنائهم، ويحثون الخطى على العودة للوطن، ويأملونهم بالزيارات المتواصلة، حين يفاجئونهم بزيارة مفاجئة، هي أثر طيب من آثار رسائلهم المشوّقة.
حقيقة، لا يبلغ المرء كهولته، إلا بعد أن يكون قد أمضى ردحا من الزمن لا يقل عن أربعين عاما في الكد والإجتهاد والعمل.
تراه كان قد قطع وقته كله، في إنشاء حياته على الوجه الذي تحتاج إليه الحياة الكريمة، وشق له في القرية أو المدينة كسرا من بيت، أو بيتا ولو من شقتين (غرفتين)، هما لعيشه وأسرته وفراخ أهله. يحوج كل يوم حاجاته بعناية فائقة. يدرس لوازمه. يطلب مقتنياته. يهندس حياته، على حجرة ومقعد وطاولة وسرير، ومطبخ ولو صغير صغير، حتى يكون ذلك لكهولته، لشيخوخته، لهدوئه وراحة باله، بعد أن يطير فراخه من العش، ويلتمس الفتيان طريقهم، إلى الحياة، في الوطن أو خارجه، على قاعدة: من جيل بعد جيل. ثم تراه يقول في سرّه: هذا ما جنيته لنفسي، حتى لا أكون في عوز ولا في ضيق. حين تشتد عليّ الحياة وتعلوني الهاجرة وينتعل كل شيء ظله.
فجأة، يجد الرجل الكهل نفسه، عازما على ترك كل شيء، على مغادرة الأهل والأصحاب والخلان والأوطان في الوطن. فجأة يجد الرجل الكهل نفسه، في جحيم لا يطاق. يجد الرجل العجوز نفسه وسط غضب الوطن الذي إنصب عليه، بل على كل من هو مثله، في سن القعود والعجز والشيخوخة والكهولة، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الوحش الذي يهاجمه، ولا أن يدافع عن نفسه، بالنزول إلى ساحات النضال والجهاد. فقد جفّت العروق، وإحدودب الظهر، وإبيضّ منه ما كان قد إسودّ. وإسودّ منه، ما كان قد إبيضّ. وولّى عنه زمن النضالات، بل زمن النزول إلى الساحات، زمن تسجيل الإحتجاجات في الشوارع والساحات.
لقد ذهب الوحش بالوطن؛ أدرك أخيرا. أدركه الوحش، وهو في خريف العمر: يستيقظ الرجل الكهل على مثل هذا الحلم المرعب حقا. هزمت أحلامه كلها، في الشيخوخة القاتلة. إنقض عليها الوحش وأعمل فيها نابه، وعرق، بل أعرق عظامها، وهرس ما فيها هرسا بلا شفقة ولا رحمة. أوجعته نابه حقا، فقد أمضى العمر يجني، لآخرته. وها هي آخرته تحت أضراس وحش لا يملّ من النهب، حتى ولو ضرس الذهب.
وحش لا يرحم، خرج من جلد الوطن، وأخذ يجلد الرجل الكهل، كل يوم: جلدة بعد جلدة، بعد جلدة.. فصار إلى الأنين والأوجاع، صار إلى الشكاية، صار كل يوم يندب حظه، شاكيا باكيا، لفلذات أكباده، الذين كان قد سبقوه إلى هجرة الوطن، فيتألمون له، ويدعونه لترك كل شيء في مكانه، والإلتحاق بهم، من فرط خشيتهم عليه.
يندب الرجل الكهل حظه كل يوم في رسائله لأبنائه:
1- الوحش سرق الكهرباء كلها، وأحال الرجل الكهل إلى العتمة الشاملة. وخرج عليه «سعادته»، يقرعه ويقول له: «أيام جدّي وجدّك. وستّي وستّك، كان في كهربا».
2- الوحش سرق الماء، لم يعد له في وطن الينابيع، في وطن الثلج، في وطن أعظم خزان للمياه في الشرق الأدنى، قطرة ماء يبل بها حلقه، يغسل بها وجهه، لم يعد له قطرة ماء، يجعلها في طبقه، حساء، وفي إبريقه ماء، ذهب الوحش بالماء، حتى نضبت الخزانات العامة. وتلوثت. حتى نضبت الأنهار وتبخرت السدود، فبخلت الصنابير بالقطرات.
3- ذهب الوحش بالودائع، سطا عليها بنابه، فلم يدع له قرشا، يسدّ بها حاجته.
4- سطا الوحش على الرواتب. فصار الرجل الكهل يقف في الشارع، يستجدي الآلة الصمّاء، وينتظر الآلة الحدباء.
ذهبوا بالبلد. صار الرجل الكهل يردد، وهو حلس داره، حلس بيته، لم يعد يستطيع أن يزور قريته، ولا مزرعته، ولا أهله. لم يعد يستطيع أن يزور أصدقاءه في الأحياء الأخرى: أصابهم ما أصابه، فلا طرقات للعامة، ولا مواصلات عامة. ذهبوا بقطاع النقل. وصار «معاليه، يتخفى، ويتحفى، على الدراجة الهوائية، حين يريد أن يبحث عن سر الوحش الذي ضرب القطاعات كلها، وجعلها تتلاطم ببعضها.
لماذا يظل الرجل الكهل في بلده، و لم يعد فيه «لا أهل ولا وطن»؟ ماذا يفعل، إذا اشتدّت عليه عظامه، وأحوجته لطلب الشفاء مما به من داء؟ ماذا يفعل، لو بلي بنزلة صدر أو بنزلة برد أو إحمرّت عيناه، وآلمه جذعه أو إشتكى مما يشتكي منه كل رجل عجوز أو كهل؟ ماذا يفعل الرجل الكهل، إذا ما أهلّ عليه الشهر، وهو لا يستطيع الوصول إلى البنك، لأخذ راتبه، ولا يستطيع الوقوف أمام «العلبة» لسحب، بعضا من ماله، مما إلتهمه منه الوحش؟ ماذا يفعل الكهل، حين تسدّ في وجهه المشافي والصيدليات، ويغدو في داره قعودا، بل قعيد الهمّ والحاجة والأوجاع.. يسرح نظره في الآفاق، فلا يجد من سبيل إلا النجاة بنفسه، ولو في بلاد الإغتراب؟!
هكذا، وبكل قسوة، لم يعد أمام الكهول، إلّا مغادرة البلاد، خشية أن يعجل عليهم الوحش بالقبور، فينقلوهم إلى قابر. بعدما سطا على كل شيء في البلد، ونهب ما نهب من خيراته.
ذهبوا بالبلد حقا، يقولها الرجل الكهل وهو يغادر بيته، وطنه، أهله.. يخرج إلى شوارع مدن العالم، فيجدها نظيفة، ويجد أنوار الكهرباء مشعشعة، يجد الماء تملأ الصنابير، يجد المستشفيات، جاهزة، لإستقبال الحالات الطارئة، يجد المواصلات، أقرب من اليد إلى اليد، من الخد إلى الخد، من العين إلى العين.. يقول في سرّه: آه ما أقسى الغربة في الوطن! فمن كان يذق، كان يرى.
ينظر الرجل الكهل العجوز إلى الوطن في مغتربه القسري، من بلاد الإغتراب، فيجدهم هم.. هم. لا زالوا «على أرائكهم، سبحان خالقهم». يتصارعون، يتناهشون، يتناتشون البقية الباقية من الوطن. حكام بلا حكومة، رؤساء بلا رئاسة، يتضاربون بالعصي وبالخشب، وبألواح التنك، من الصباح حتى المساء، كعاداتهم في الجاهلية، ويتقاذفون التهم.
ينظر المغترب الكهل في مهجره، على مرج بحر أو بحرين إلى الوطن. يقول في سرّه: لقد ذهبوا بي حقا.. واليوم يذهبون بما تبقّى في الوطن!

أستاذ في الجامعة اللبنانية