بيروت - لبنان

اخر الأخبار

20 أيار 2021 12:01ص هل الموسيقى فطرية؟

حجم الخط
كل شيء في حياتنا وليد ثلاثة: الفطرة والطبيعة والصنعة.
مَن يطّلع على تصانيف ارسطو وابن سينا وغيرهما من فلاسفة وعلماء، يرى أنهم يضعون الموسيقى في مرتبة العلوم الرياضية، تتبع قوانين وقواعد ثابتة، وانها في معزل عن هذه القوانين والقواعد، لا تأخذ ذلك المظهر الوجداني. ولكن لكي يكون الشيء صناعياً، لا بدّ له من أن يمرَّ على درجتي الفطرة والطبيعة.
لم يكن الإنسان القديم يعرف شيئاً عن الموسيقى، ولكنه حين سمع تغريد الطيور، وأصغى إلى شدو البلابل، وشهد مداعبة النسيم للأزهار، سبح مع الخيال في أحلام النشوة والطرب، ثم رعدَ الجو وهبّت العواصف وانقضت الصواعق، فأحدث هذا التغيير في نفسه خوفاً ورعباً، فالتجأ إلى كهفه حذر المخاوف الطبيعية.
بكى الطفل فأصغى إلى تنهداته، ثم سئم هذا الصراخ وأزعجه، فحاول ارهابه ليسكت، مقلّد صوت الرعد والعواصف، فازداد الطفل عويلاً، وهنا تكشفت الغيوم عن شمسها ورددت أغانيها، فحرّك هذا التغيير كوامنَ نفسه، وبرز من كهفه وبسط يديه ليستنشق النسيم العليل ملء صدره، ثم ضمهما بقوة الفرح والسرور، فانتج اصطدامهما في ما بينهما صوتاً تتناسب درجاتُه مع اختلاف أوضاع الكفين حين اصطدامهما، ووجد ان هذه الصفقات تتناسبُ مع تغاريد الطيور، فقلّد التغريد بفمه وصفّق بيديه، فنتج عن ذلك موسيقى (الأذرع الصفاقة) وهي فطرية.
ثم شهد السيل حين ينحدر من أعالي الجبال، وسمع أصوات الحجارة يجرفها السيل معه، فانتبه إلى أن اختلاف أحجام الأحجار يُنتج أصواتاً مختلفة، فاستعاض بها من الأيدي، وهذا ما يسمّى «موسيقى الحجارة» وهي طبيعية.
ومن ثَمّ أوجد موسيقى الدفوف، ثم لاحظ ان للدفّ صوتين، الأوّل غليظ وذلك حين يضرب على الدف بمجموع الأصابع، والثاني ضعيف حين يضرب عليه بأصبع واحد، فحاول اكتشاف الأوزان الموسيقية، ثم اكتشف المعادن فعلق بالدف صفائح من نحاس ليعطي صوتَ الدف جمالاً وبهجة، وهنا وُجدت «موسيقى الدفوف» وهي صناعية.
ثم تدرج إلى اختراع الآلات الوترية والنحاسية إلى أن توصل إلى يومنا هذا بالتناغم مع التقنيات الحديثة، فأخذت الموسيقى اسمها الفني والصناعي!
على ان تقدّم الفن الموسيقي لم يحصل بدرجة واحدة عند جميع الأقوام، بل انه تمشّى مع فكرة كل مجموعة ودرجتها في الحضارة والرقي، لأنّ في موسيقى كل أمة صورة ناطقة عن نفسية أهلها ونظرتهم إلى الحياة، وهذا ما جعل أحد الفلاسفة يقول: أرني غناء أمة لأريك مدى حضارتها وثقافتها.

أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه