بيروت - لبنان

اخر الأخبار

3 شباط 2023 12:28ص (هندباء برّية) لـ كاواباتا غفلة الوعي عن الحقيقة

غلاف الرواية غلاف الرواية
حجم الخط
ينسجم السرد الروائي في رواية «هندباء برّية» للروائي «ياسوناري كاواباتا» الصادرة عن «دار الساقي» مع الطبيعة والإنسان والتناغم غير المفهوم بين كل ما يحيطه والحواس المرتبطة بخصوصية الإنسان المتميز بفلسفته، وتفكيره واهتمامه بالعاطفة والحب والعلاقات مع الآخرين، بأسلوب لا يخلو من استكشافات متعددة من القدرية الى النهاية الحتمية للأشياء الى الإدراك المتحرك، وصولا الى الصحة العقلية حيث كل شيء يشبه المصحة العقلية من السجون الى المعابد، فالمعارك وما الناقوس إلا الوعي المتأخّر عند الإنسان بعد عزلة يمضيها تجعله يعيد التفكير بأحداث حياته التي يكتبها القدر معه دون انتباه منه الى أن يقرع ناقوس النهاية بيديه. فهل رمزية نبتة الهندباء الصفراء هي المرض الذهني الذي يشكّل نوعا من العودة إلى الذات؟ أم هي الزهرة البيضاء في شتائها حيث تتحول زهرة الهندباء في نهاية عمرها الى اللون الأبيض، والتي لم تعترف بوجودها زوجة العقيد الركن في القوات البرية كيزاكي ماسايوكي الذي حاول إنهاء حياته مأزوما من خسارة الحرب اليابانية التي أشار إليها ياسانوري كاواباتا بالناقوس و«كيف أجبرت المعابد على تسليم نواقيسها للجيش خلال الحرب» فهل من ناقوس فعلا رنينه يطوي المسافات؟ أم أننا نقرع الناقوس عند الإحساس بالألم والخسارة والحزن؟
رواية تعالج النفس البشرية من خلال الطبيعة ومقوماتها المساعدة على شفاء الإنسان من حالات العمى المستمرة في حياته حيث يفقد الجزء من الكل خلال الأحداث المؤثرة على حياته، ان من حيث الصدمات كصدمات خسارة الحرب اليابانية على كل من شارك فيها أو خسارة الأهل والأصحاب وحب حياته واضعا «ياسوناري كاواباتا» الميزان الإنساني في فلسفات عديدة أهمها فلسفة «الزن» أو الفلسفة التي «تقوم أولا على الشعور بشيء معين قبل استخدامه كمنطلق لسلسلة من الأفكار، قد يكون هذا الشعور بحد ذاته ساذجا، أو إحساسا بالدهشة إزاء شيء ما يراه معظم الناس معتاداً أو بديهيا». فهل تقودنا الفلسفات الى الحياة التي تزيل أو تشفي العمى؟ أم أن الحالة التي أصابت هيسانو هي عقاب الإنسان للإنسان؟
لم ترَ هيسانو سقوط أبيها مع حصانه في البحر لأنها فقدت الوعي، إلا انها رأته بعين مخيّلتها وكل من رأى الحرب اليابانية والخسارة التي أصابتها عرفها من خلال المخيلة، إذ لا يصدق جمع النواقيس وتحويل الكم الهائل من المطارق إلى أسهم، وإصابة عدد كبير بالتشرّد والموت ومن ثم الإستسلام، هذا بحد ذاته يصيب إي إنسان بالجنون، وهذا ما حدث للعقيد الركن في القوات البرية، إلا أنه تراجع عن محاولة الانتحار بعد وصوله الى الشجرة، وربما إيحائيا هي الشجرة المقدّسة في معبد ياباني يقع على سفح جبل أشار له الراوي في المصحة العقلية التي يوجد فيها شجرة حفر عليها المجانين الأسماء أو تم جرحها بسكاكين من ماتوا دفاعا عن المعابد التي أجبرت بتسليم نواقيسها، وبين المصحة والسجن وأرض المعركة قواسم مشتركة حيث يفقد الإنسان خاصيته وتفرّده، وعالمه الخاص الذي يساعد على تأملات تقوده الى الحقيقية التي يراها في خضم الأحداث المتتالية أو وجوده مع الجماعة «المصحة قاع هاوية حيث تتراكم السموم في قلب الإنسان وهي تغلي وتبقبق» وهذا بحد ذاته مؤذٍ للإنسان الذي يمتلك رد قدره أو الوقوف في وجه الاحداث الطارئة على حياته فجأة ما لم يربط السبب بالنتيجة أو العكس. فهل يشفى مريض الحرب في مصحة هي معبد شهدت الشجرة فيه الكثير من الجروح التي جعلتها تبكي أو كما شعر بها حبيب هيسانو؟رواية تجعل القارئ يدخل الى عوالم الإنسان والطبيعة، وما بين العائلة الصغيرة وزهرة الهندباء من الأصفر الى الأبيض الى سريالية الحرب والحب، والعمى الذي يصيب الإنسان لحظة اندفاعه لتحقيق غاياته ان في الحرب أو الحب أو حتى في لحظات الشباب التي تمضي سريعا، فلا يدرك الأخطاء إلا بعد فوات الأوان «كانت تدرك جيداً أن المرأة ما دامت على قيد الحياة قادرة على تبرير كل أفعالها ومحو كل أخطائها أيا كانت. وكانت تسأل نفسها أحيانا، عند استرجاع ماضيها، هل هذا الإدراك قد جعلها إلى حد الأم غير المبالية» إذ تبدو محاكمة الأفعال بعد مرور الزمن هي العقل والرؤية وعودة المنطق الى الأشياء وحدها الطبيعة دون الإنسان تعيش دورة الحياة بشكل صحيح كما زهرة الهندباء البرية التي تشفي الكثير من الأمراض، إضافة الى جمالها البصري وفي نهاية حالتها الحياتية تصبح بيضاء صافية، وهذا ما لم تره أم هيسانو التي عادت بها تفاصيل الحياة في النُزل حين حادثت حبيب ابنتها وشعرت بمدى حبه لفتاة وضعتها في مصحة أفقدتها حريتها الشخصية في كل شيء، وهذا لم تكن تراه مطلقا أو بالأحرى جملة النهاية لرواية تجعلنا نرى الكثير من الحقائق الإنسانية المغلّفة بفلسفة خاصة هي غفلة الوعي عن الحقيقة.