بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 تشرين الثاني 2022 12:00ص ورق عتيـــق (1)

حجم الخط
إشتدّ العصف في المدينة، كان كل شيء يهطل بغزارة، المطر والسواقي والمزاريب والزيازات والرصاص والقذائف.. سالت الأحياء القديمة، خرجت أحشاؤها إلى الزقاقات والزوايا والساحات، كان كل شيء يصب في نهر عكر متدفق من الأعالي، لا يقف في وجهه شيء.
القذيفة التي هوت في المنور، أصابت من القبو فجوة عظيمة، فتدفق الماء إلى المكتبة، طفت الكتب العتيقة على سطح الماء، طفت دوواين الشعر، طفت كتب التفاسير، طفت الشروح العظيمة، غمرتها المياه التي صبّت غضبها على المكتبة، وجعلت من آلاف الصفحات، بساطا أصفر، يتهادى فوق البحيرة، وسط الجدران السميكة. صارت مياه البحيرة، تندلق إلى الخارج من شباك هالكة في القبو، وتندلق معها أحشاء المكتبة.
سبح الجرذ وراء كتاب أحبه كثيرا. كان يتلذذ بنتشه قبل طوفان عظيم لم يشهده من قبل. خرج وراءه، أمسك به. أخذ يجمع بعض الكتب الأخرى، التي كان قد تعلق بها طيلة فترة التعارف بينه وبينها.
كان الجرذ، يعضّها ويشدّها بكل قوة إلى سلة طفت هي الأخرى، على وجه الماء. رمى الجرذ من فمه الكتاب فوق الكتاب في فم السلة. فم الجرذ إلى فم السلة، والكتاب بينهما، فإذا العاصفة تهدأ، وإذا أحشاء العالم التي خرجت، تطفو كلها. ترسو في الزقاقات، ويندلق الماء بعيدا، بعيدا، يذهب إلى النهر، هناك يصب في البحر.
الجرذ تتبعت نفسه، سلة الكتب التي أنقذها من الطوف. كان يعض عليها بأسنانه القوية. كان قد تعوّد مذاقها طيلة فترة إقامته في القبو. كان يعاشرها على الرفوف حيثما تكون. وربما تأبطها وخرج بها في نزهاته إلى الجحور التي إعتاد الذهاب إليها. كان يجد في هذه الكتب مذاقاته، في الصبوح وفي الغبوق. وكان يتباهى بها على أنه مثقف كبير. وربما كان يستلقي بجانبها في وقت الظهيرة، «حين يشتد القيظ وينتعل كل شيء ظله». وربما راح يبترد معها في السحر، تحت قناديل البلدية، أو يخرج بها عصرا، تحت ظلال الشجر.
الجرذ الذي كبر في القبو، كان يحب القراءة منذ حداثته، لكثرة تذوقه طعم الورق. كان يجد للورق العتيق حلاوة، كثيرا ما أنبهه عليها معشر الجرذ، حين كانوا ينتدون معه في جحور المقاهي في المدينة. فما يكاد يعود إلى القبو، حتى يتسلق الرفوف، يبحث عنها، ويمضي السويعات الطويلة في قرقشة أطرافها العطرة المزينة. يجد فيها شهوته للمذاقات، حتى نال شهادة من زملائه بها. كانت تستوقفه التعليقات على الحواشي، خصوصا منها ما كتب بخط اليد. كانت تستوقفه الأسئلة التي كتبت بقلم رصاص رفيع، حتى لا يخدش حياء الورقة العروس، في صفحة خدها. كان الجرذ وهو يتتبع التعليقات على الصفحات، يجرّب أن يضع هو نفسه، تعليقات عليها، من نوع خط رفيع، أو خطين، أو ثلاثة، تحت سطور بعينها، بحسب ما تلذ له بعض الجمل.
شيئا فشيئا، نما للجرذ، ذوق ثقافي. كان يشعر بين النتشة والنتشة، من هذا الكتاب أو ذاك، أن صدره يسرع في التوسعة للآداب والعلوم. وأنه كاد أن يصبح جرذا مثقفا. فيخرج بين أقرانه من الجرذان يتباهى أمامهم بعلمه، ويتباهى عليهم بسعة إطلاعه. وأكثر ما يتباهى عليهم، بكثرة إقتنائه للكتب، بعدما صار يعدّ مكتبة القبو المهجور، مكتبة خاصة به.
فجأة صار الجرذ يحسّ بعظمته: صار الجرذ مثقفا عظيما. صار يتوسط الحلقات الثقافية، وينظر في السياسات القديمة والجديدة. صار الجرذ من أهل القلم، لا يقبل أن يرد له رأي شفوي أو مكتوب. صار يقلد عظماء الجراذين الذين سمع بهم، أنهم كانوا يعيشون في أقبية القصور، ويتسنمون فيما بعد المراكز العظيمة. وسرعان ما طلب الأوراق الفاخرة الزاهية الملونة، والأقلام السخينة، ليدبّج عليها أفكاره المستحدثة، التي كان قد قرمطها من ورق عتيق.

أستاذ في الجامعة اللبنانية